هل يستحق الكردي الموت؟
- مقالات سياسية
- 03 يناير 2024
- 238 مشاهدة
حسين عمر
يعم الصمت حين يتعلق الأمر بقتل الكرد. ليس صمت اللامبالاة، بل صمت المتابع المتشوق ليرى ويسمع، دون أن يخرج من دائرة الصمت التي رسمها لنفسه. هذا هو وضع الغالبية العظمى من العرب والترك والفرس في مواجهة قتل الكرد. حكامهم على مدى قرن من الزمن نشروا كذبة، صدقها الرعية وبدأوا بتكرارها، أن الكرد قوم جاحد يطالبون بما ليس لهم، ويريدون تجزئة أوطانهم، ورسمها لهم من كان يتحكم بمصير الأمم ويقرر بالنيابة عنها. لا أحد يقبل أن يتساوى الكردي معه، وينظر إلى الكردي نظرة السيد إلى عبده، الكردي الذي جُرد من كافة حقوقه التاريخية والجغرافية والإنسانية، ويعاني السبي دون حقوق، والسجن دون قيود، وعلى امتداد قرن كامل يتعرض لحرب إبادة ممنهجة.
بعد الحرب العالمية الأولى، اختلفت قوى الهيمنة العالمية على من سيخلع أبواب السلطنة العثمانية. جردوها من تاجها وحولوا سلاطينها إلى متسكعين على أبواب الدوائر الحكومية في باريس ولندن وبرلين. رسموا خرائط على الورق، دون أي اعتبار للسكان، ولم يستشيروا أحداً من أبناء المناطق التي كانت تحت تاج السلطان العثماني. جلسوا في غرفة والطاولة تتوسطها، وضعوا الخرائط التي رسمها الرحالة من مدنيين وعسكرين جابوا المنطقة للتعرف عليها. حمل مارك سايكس قلمه الرصاص وبدأ يسحب خطاً؛ أراد القسمة الأكبر، وأخذها. ظهرت دول باسم سوريا والأردن وفلسطين ولبنان والعراق، إلى جانب بقاء إيران وتركيا. شطبت بعدها كردستان، التي كانت موجودة قبل العثمانيين، لا بل قبل توسع الإمبراطورية الإسلامية نحو الشمال. ذكرها هيرودوت وقادة الحملات البيزنطية والرومانية، موزوبوتوميا ذات الحدود الشاسعة استقر فيها أسلاف الكرد والأرمن والكلدان منذ التدوين. وشكلوا ممالك وإمبراطوريات عديدة إلى أن وصلت الجيوش العربية الإسلامية إليها، فأسلم أغلبية الكردم، وانضموا بفعالية إلى المشاركة في التوسع وكذلك ساهموا في تثبيت الاستقرار في مناطقهم التي أصبحت تابعة للإمبراطورية العربية الإسلامية التي زحفت بسرعة نحو الاتجاهات الأربع.
كانت السلطنة العثمانية أخر بواكير الإمبراطورية الإسلامية، وسيطر قادتها على بغداد العاصمة، وجردوا الخليفة من منصبه، وأعلنوا أنفسهم أوصياء على تركة الإسلام
أصبح الجزء الأكبر من كردستان تحت السيطرة العثمانية، لكنها حافظت على استقلالها الذاتي. عادت الإمارات الكردية للظهور من جديد تحت راية التاج العثماني، وبقي الأمر كذلك إلى نهايات القرن التاسع عشر، حين دبت الصراعات داخل السلطنة العثمانية، وقويت شوكة ذوو النزعة الطورانية التي بدأت باجتثاث الأقوام الأخرى، وخاصة الأرمن والمتنورين الكرد وما تبقى من الكلدان والسريان، وتم ارتكاب أبشع المجازر التي حصلت في المنطقة حتى ذلك الحين، وبدأت حملة إبادة الأرمن الذين توزعوا على أطراف الإمبراطورية، فأسلم البعض وبقي، وذبح الآخرون، وقتلوا، وانقسمت العشائر الكردية بين بين، فلم يطل الأذى الجسدي الأغلبية في تلك الفترة. وبعد تقسيم السلطنة وظهور الجمهورية، تخلصوا من الرومان، السكان الأصليين لمناطق غربي تركيا الحديثة وجنوب غربها.
بقي الكرد، الأكثرية التي لم تستطع الموجات المتعاقبة من الذين استوطنوا في أراضيهم أو مروا منها أن يقضوا عليهم.
كان الإسلام هو الوعاء الذي يضم الكرد مع العرب والعثمانيين. أنهت اتفاقية سايكس بيكو هذه العلاقة الندية، وأبقت جزءاً كبيراً من أرض الكرد ضمن حدود الدولة التركية التي تأسست على أنقاض السلطنة، وأخذ سايكس فلسطين والأردن والعراق وضم ثلاث ولايات كردية كانت تتمتع بحكم محلي في العهد العثماني إلى الدولة العراقية الحديثة التكوين، دون الأخذ بمطالب شعب كردستان أو الأخذ برأيه، ففرضت على من رفض وبالقوة، وشكلت حكومات مع هامش كبير في الحق بالتصرف بالشؤون الداخلية، تعزيزاً الأمن كما زعموا.
لم تكن الإمبراطورية العثمانية تركية كما يدعي من استلموا الحكم بعد انهيارها، بل كانت هناك أقوام وشعوب وأقاليم يتمتع فيها القادة المحليون والباشوات والبكاوات بقدر كبير من الحرية. فاستمر العربي عربياً، وكذا حال الكردي والأرمني والروماني إلخ… هذا النظام، نظام الحكم الفيدرالي، استمر إلى بداية القرن العشرين، حين أصابت عدوى القومية التي استعرت في أوروبا بعض النخب العثمانية وظهرت جمعيات – أحزاب، مكونة من نخب القوميات المختلفة، بدأت مرحلة الانحلال الأيديولوجي [الإسلامي] بدأ من استنبول لتنتشر في الحواضر المهمة في أصقاع السلطنة التي اقترب منها الموت. لقد كانت بداية القرن العشرين كارثة على بعض الشعوب الرازحة تحت التاج العثماني، وكان الشعب الأرمني بالذات الأكثر تظلماً والأكثر خسارة، فبدأت الألوية الحميدية السيئة الذكر تنفيذ حملة إبادة جماعية ضد الأرمن، فهجر من هجر وقتل من قتل، وأسلم البعض حماية لأنفسهم. وفي استنبول على وجه التحديد أحصي أكثر من مليون أرمني مسلم حسب المصادر المختلفة الأرمنية والتركية.
حكمت الدول المنتصرة وقسَّمت ما حكمت، والأكثر أهمية من التقسيم أنها دعمت إعلان الجمهورية التركية بقيادة مصطفى أتاتورك، الذي وعد قادة الكرد في العديد من الاجتماعات بأن تكون الجمهورية الجديدة جمهورية الكرد والترك وبقية الأقوام، لكن بعض أن ضم استنبول وإزمير إلى جمهوريته، تراجع عن وعوده، ورفض الاتفاقيات القديمة التي وقعت بمشاركة فرنسا وبريطانيا والتي أكدت على حقوق الكرد والأرمن والرومان، وعقد مع الدول المذكورة اتفاقيات جديدة لا حقوق فيها ولا شعوب، بل تركيا والأتراك فقط، وهو ما دفع العديد من القادة الكرد إلى إعلان العصيان، وتحول بعضهم إلى الثورات المسلحة أيضاً. في المقابل، انطلقت الجمهورية الجديدة بقيادة أتاتورك، الذي تحدث عن حق الشعب الكردي في كردستان بحكم ذاتي أو ما يشابهه في أول خطاب له في البرلمان الأول للجمهورية في أنقرة. لكن أتاتورك تراجع عن وعوده، وبدأ حملة إبادة جماعية ضد الشعب الكردي، ورفض الاعتراف بأي حق من حقوقه، لا بل بدأ بنقل العديد من العشائر الكردية قسراً إلى مناطق أنقرة وقونية وغيرها لتتريكهم، كما بدأ بمنع ذكر كل ما يذكر بالكرد، وفرض حظراً شاملاً على التراث واللغة والثقافة الكردية، في حين عملت النخبة الطورانية التركية على تغيير التراث الكردي وتاريخه وتنسيبه إلى العشائر التركية، بل إنهم أسموا الشعب الكردي “أتراك الجبال”، في محاولة لإنهاء الوجود الكردي من أساسه.
لم تكن الحكومات السورية بعيدة عن نهج الإنكار ذلك، وخاصة في عهد حزب البعث، الذي استمد كل أفكاره ومنطلقاته النظرية من النازية والفاشية التي مجدت العرق الجرماني، فمجدوا هم العرق العربي مع إنكار بقية الأقوام التي تسكن المنطقة منذ آلاف السنين. وتشربت الأجيال المتعاقبة تلك الأفكار والاكاذيب ضد الشعب الكردي، وعلى ذلك الأساس تكون رأي عام بين العرب يرفض الكرد كقومية، استناداً إلى الأسس النظرية القوموفاشية التي كونت ثقافات المجتمعات التركية والعربية والفارسية. لهذا يخيم الصمت عليهم عندما يتعرض الكردي للإبادة الثقافية والجسدية، فيصمتون عن القصف والمجازر التي تتم من قبل الحكومات التركية والعراقية (قبل 2003) وما كان يتعرض له الكرد في سوريا على يد النظام البعثي العنصري، ولا يتسع هذا المقال لسرد الأمثلة. لم يكن الكردي يوماً إلا صاحب حق في مطالبه، لم يحاول يوماً الإضرار بالدولة التي تكونت على جسد وطنه، بل حاول وما زال يحاول أن يتم القبول به كمواطن له حقوقه، تماماً كالتركي أو العربي أو الفارسي، وأن يتعلم بلغته ويمارس ثقافته ويدير شؤون منطقته، وأن يعزز من التشاركية الندية داخل حدود الوطن المتعدد اللغات والثقافات والانتماءات، وهو ما ترفضه الحكومات المتعاقبة، والتي دفعت الكرد إلى القيام بالعديد من الثورات والانتفاضات حتى الآن.
نشر بموقع ايلاف الالكتروني