المقالات

المقالات

التسعينات: سنوات النار والحصار

Hussein Omar
  • 39 مشاهدة view

في مطلع التسعينات، كانت كردستان تعيش على إيقاع حرب لا هوادة فيها. الجيش التركي، مدعوماً بسياسة مركزية قاسية، شنّ حملات عسكرية واسعة في جنوب شرق البلاد، استهدفت كل ما هو كردي: الأرض، الإنسان، اللغة، وحتى الذاكرة.

كانت القرى تُفرَّغ عنوة، بيوت تهدم أو تُحرق، مواشٍ تُقتل، والحقول تُترك جرداء. سياسة “ترك السمك دون ماء” لم تكن مجرد استعارة سياسية، بل كانت واقعاً يومياً؛ فالسمك هو المقاتلون، والماء هو الشعب. إذا جفّ الماء، سيموت السمك.

لم يكن الهدف فقط القضاء على المقاتلين في الجبال، بل أيضاً كسر إرادة القرى التي توفر لهم الدعم المعنوي والمأوى. ولتحقيق ذلك، استُخدمت أساليب وحشية: اعتقالات جماعية تطال حتى الفتية في عمر الثانية عشرة، تعذيب في مراكز الاحتجاز يهدف إلى تحطيم الجسد وكسر الروح، وممارسات إذلال علنية، حيث يُهان الرجال أمام نسائهم والعكس، لزرع الإحباط والخوف.

لكن وسط هذا الجحيم، كانت هناك قرى عصية على الانكسار، تتمسك بالأرض حتى آخر رمق. قرية ديوان، التابعة لمنطقة كربوران، كانت واحدة من تلك القلاع الصغيرة في وجه العاصفة.

في صيف عام 1990، بعد ذكرى انطلاقة الخامس عشر من آب، كنّا مجموعتين صغيرتين من المقاتلين نتحرك في الجبال، نبحث عن فرص لرفع معنويات الناس، نرد على دعاية العدو بعمليات جريئة، ونترك وراءنا رسالة واضحة: الثورة ما زالت هنا.

كان هدفنا هذه المرة زيارة قرية ديوان. قرية مقاومة، رفضت أن تحمل سلاح العدو أو تفرّ من بيوتها، رغم أن أكثر من ثلاثمئة من رجالها ونسائها اعتقلوا في حملات سابقة. لم تكن القرية بعيدة عن فم الوحش؛ قوة تركية تحاصرها بشكل شبه يومي، ومع ذلك ظل أهلها متشبثين بها كما يتشبث الجذر بالصخر.

قبل دخولنا، جاءنا رجلان من أبناء القرية، نعرفهما باسم “الميليشيا”. تقدّم أحدهما ليخبر شباب القرية بمجيئنا، وينظم مراقبة المداخل، بينما رافقنا الآخر عبر ممرات يعرفها جيداً. وزّعنا ثلاثة من رفاقنا على الطرق المحتملة لوصول العدو، وأكملنا السير.

كانت مغامرة الدخول بحد ذاتها مقامرة بالحياة، لنا ولهم. فالجيش التركي لا يعرف قانوناً، وأي لقاء بين المقاتلين والمدنيين كان يعني اعتقال الجميع أو قتلهم. لكننا كنا نعلم أن غيابنا عن عيون الناس أخطر من مواجهة العدو؛ إذ كانت دعاياته تقول إننا انتهينا، وإن الثورة لم تعد قائمة. وكان علينا أن نكسر هذه الأكذوبة.

قادنا القروي إلى مسجد القرية. عند الباب، لمحنا أكثر من مئتي شخص جالسين على الحصر. لحظة دخولنا، ساد صمت ثقيل، كأن الزمن توقف. كانت العيون تحدّق بنا من أقدامنا المغبرة حتى أسلحتنا المعلقة.

ابتسمت وقلت بصوت يمزج بين الثقة والمزاح:

ها نحن أمامكم… هل ستصدقون ما ترونه، أم ما يقوله العدو؟ نحن هنا، في كل مكان. ما بدأناه في 15 آب مستمر، وسنستعيد كورديتنا التي حاولوا محوها. واجبنا المقاومة، وواجبكم ألّا تصدقوا أكاذيبهم.”

من بين الصفوف، نهضت امرأة عجوز، يكسو الشيب رأسها وكتفيها كغطاء أبيض. صوتها ارتجف وهي تقول:  هفال، الجيش يقول إنكم انتهيتم. اعتقلوا ابني منذ أسابيع… كيف نصمد إذا عادوا غداً؟”

أجبتها بحنان حازم :”أمي، يقولون ذلك ليزرعوا الخوف في قلوبكم. لكن انظري إلينا الآن، نحن في قلب قريتكم! ابنك ليس وحده، نحن معه ومعكم. الصمود أقوى من أي سلاح. إن بقيتم، سنبقى.”

ارتفعت يد شاب في مقتبل العمر، كان في عينيه بريق المهابة والحماس:

هل ستواصلون الغارات؟ قريتنا محاصرة، ونحن جاهزون للمساعدة!”

ابتسمت له:

“سنواصل، وكل غارة تكسر دعايتهم. أنتم تساعدوننا بصمودكم، وبأن تبقوا هنا، تقاومون بالوجود كما نقاوم بالسلاح.”

وقف المختار، رجل وقور من طور الحاج صاروخان، وقال:

هفال، قبل الثورة، كان الأتراك قد زرعوا فينا الخجل من كلمة كردي. كنا حين نضرب دابتنا نقول ‘وشه كردو’ كإهانة. لكن الثورة أعادت لنا الفخر، وجعلتنا نرفع رأسنا بكرديتنا.”

لم يكد المختار ينهي كلمته حتى اخترق صوت الرصاص جدران المسجد. كان صوته حاداً، كأنه يمزق السماء. أدركنا أن رفاقنا المرابطين عند الطريق اشتبكوا مع قوة قادمة من جهة الغرب.

خرج الناس بهدوء يثير الدهشة، وكأن أصوات المعارك صارت جزءاً من حياتهم اليومية. تحركنا بسرعة نحو موقع الاشتباك، وأطلقنا النار من جانب آخر لتشتيت العدو. كنا نعرف أن المعركة ليست للانتصار الميداني، بل لفتح ثغرة للانسحاب الآمن.

حين وصلنا إلى نقطة التلاقي، كانت أنفاسنا تختلط برائحة البارود، والعرق يتصبب من جباهنا رغم برودة الظل. انسحبنا جميعاً نحو الجبل، حيث كانت الصخور تمنحنا الأمان المؤقت.

في اليوم التالي، حملت لنا الأخبار مفاجأة: الجيش لم يهاجم القرية. اكتفى باستدعاء المختار واستجوابه. الرجل نفى أي تواجد لنا، قسم أنه لم يرنا قبلها أو حينها أو بعدها.

ذلك اليوم لم يكن مجرد زيارة تحت الحصار، بل كان درساً: الثورة ليست فقط رصاصة في بندقية، بل أيضاً نبض في قلب القرية، وكلمة تعيد للأمة روحها.

لم تكن زيارة قرية ديوان في ذلك اليوم مجرد مخاطرة عسكرية أو عملية معنوية، بل كانت فعل مقاومة متعدد الأوجه. ففي زمن الحرب النفسية، تصبح الكلمة والظهور في قلب قرية محاصرة أقوى من عشرات الطلقات.

لقد كانت تلك الزيارة بمثابة كسر للحصار المعنوي قبل أن تكون كسراً للحصار العسكري. فحين يرى الأهالي المقاتلين بين بيوتهم، يسمعون صوتهم ويلمسون حضورهم، تتراجع قوة دعايات العدو التي تحاول إقناعهم بأن الثورة انتهت. كما أنها جسّدت مفهوم وحدة المقاتل والشعب. لم يأتِ المقاتلون ليطلبوا شيئاً من أهل القرية، بل جاؤوا ليعطوا: الثقة، الأمل، والشعور بأن المعركة ليست بعيدة عنهم. وفي المقابل، ردّ الأهالي بالصمود، بإخفاء الحقيقة عن العدو، وبالاستمرار في حياتهم رغم الخوف. أما على المستوى العسكري، فقد كان الاشتباك الذي حدث في نهايات الزيارة مثالاً على المرونة التكتيكية؛ إذ لم يكن الهدف الانتصار الميداني بل تأمين الانسحاب وحماية القرية من أي رد انتقامي مباشر.

ومن منظور الثورة، فإن هذا النوع من العمليات يؤكد أن النصر لا يقاس فقط بعدد القتلى في صفوف العدو أو السيطرة على موقع، بل يقاس أيضاً بمقدار الثقة التي تُزرع في القلوب، وبالحفاظ على جذوة المقاومة مشتعلة في العقول والضمائر.

هكذا، بقيت قرية ديوان رمزاً لصمود القرى الكردية في وجه الحصار، وبقي ذلك اليوم شاهداً على أن الثورة الحقيقية تبدأ من لحظة التقاء المقاتل بنبض قريته، وتكتمل حين يصبح هذا النبض أقوى من الرصاص.

حسين عمر