المقالات

المقالات

الدستور قبل الدمج.. لماذا نكرر الأخطاء ذاتها؟وهم توحيد السلاح قبل توحيد الدستور

Hussein Omar
  • 4 مشاهدة view

حسين عمر

لست من أولئك الذين يتفاجؤون سريعاً حين تتحرك ماكينة الإعلام المرتبطة بسلطة دمشق، ومعها بعض المنابر الإقليمية الحليفة في الخليج وتركيا، باتجاه قضية معينة. فهذه المنظومات الإعلامية ليست مجرد ناقل خبري محايد، بل هي أدوات سياسية تحريضة صريحة تعمل وفق أجندات محددة، وتبحث دائماً عن صياغة روايات جاهزة تُروَّج للرأي العام الداخلي والخارجي على حد سواء.

وفي الأشهر الأخيرة، كانت الرواية الأكثر حضوراً، والتي يتم الترويج لها بجهد ملحوظ، هي ضرورة دمج قوات سوريا الديموقراطية (قسد) ضمن /مؤسسات/ الدولة، وغالباً ما يُطرح هذا الدمج بوصفه شرطاً لإعادة وحدة البلاد، لكن دون أي تغيير يُذكَر أو إصلاح حقيقي في البنية العميقة للدولة السورية أو سلوكها السياسي والأمني الذي أدى إلى الأزمة من الأساس.

في ظاهر الأمر، قد يبدو هذا الطرح خطوة معقولة ومثالية، وربما يُصوَّر على أنه “تسوية” إقليمية يمكن البناء عليها لإنهاء الصراع. لكن في الحقيقة، هو ليس سوى إعادة إنتاج جوهر الأزمة نفسها، بل وجرّ البلاد بوعي أو بغير وعي إلى دائرة مأزومة سبق أن اختبرناها لعقد كامل أو يزيد، من دون أن نتعلم منها شيئاً، ما يُهدد بإطالة أمد عدم الاستقرار بدلاً من إنهائه.

كل من تابع اللقاءات والمفاوضات التي انطلقت خلال الفترة الماضية بين حكومة الامر الواقع الإسلامية وقوات سوريا الديموقراطية – سواء كانت مباشرة أو بوساطة دولية – يعرف جيداً أنها لم تتجاوز العناوين العامة والشكلية. اجتماعات صُوِّرت بوصفها تقدماً سياسياً حاسماً وفتحاً في الجمود، لكنها في الواقع لم تُنتج شيئاً ذا قيمة استراتيجية إلا مزيداً من البيانات المجاملة التي تُطلق لإرضاء رعاة هذه اللقاءات.

وفي رأيي، فإن الفشل في تحقيق أي تقدم ملموس لم يكن قدراً محتوماً أو مجرد سوء حظ، بل هو نتيجة طبيعية لخطأ منهجي كارثي: وهو البحث في الدمج العسكري وتفاصيل الترتيبات الأمنية قبل البحث في إعادة تأسيس الدولة نفسها.

الدمج العسكري ليس مجرد خطوة تقنية تُحسم بقرار إداري أو تفاهم عسكري ثنائي. بل هو، في أي دولة وطنية سليمة، نتيجة طبيعية لبنية سياسية واضحة، ولسلطة مدنية شرعية، والأهم من ذلك، لدستور متوافق عليه يحدد وظيفة الجيش ومرجعيته المدنية. بدون هذا الإطار التأسيسي، لا يكون الدمج تأسيساً لـ جيش وطني موحّد ومهني، بل مجرد محاولة قسرية لضمّ قوة جديدة إلى مؤسسة متهالكة لا تملك رؤية ولا شرعية حقيقية أو وطنية جامعة. إنه محاولة لـ ترقيع ثوب ممزق لا يمكن إصلاحه بقطعة قماش إضافية.

من المدهش والمحبط حقاً أن تتحدث بعض القوى الفاعلة، محلياً وإقليمياً، عن دمج “قسد” وكأن سوريا تمتلك اليوم مؤسسات دستورية متماسكة وشرعية يمكن لأي طرف أن ينضوي تحت لوائها بسلام وثقة. الحقيقة الفاقعة التي لا يمكن إنكارها أن سوريا اليوم ليست دولة بالمعنى المؤسسي الدقيق:

ليس هناك حكومة تستمد شرعيتها من إرادة الشعب عبر صناديق الاقتراع.

لا مجلس تشريعي منتخب فعلياً يمارس سلطة الرقابة والتشريع.

لا وجود لدستور توافقي يمثل جميع مكونات النسيج الوطني السوري المتنوع.

غياب جيش وطني موحَّد يدافع عن الحدود ويأتمر بالسلطة المدنية الدستورية.

بل إن المشهد الراهن هو خليط معقّد من القوى العسكرية متعددة الولاءات والتمويلات؛ بعضها يعمل تحت يافطة “وزارة الدفاع” في دمشق، وبعضها الآخر يأتمر مباشرة بتوجيهات مموليه الخارجيين.

في ظل هذا المشهد المشوّه، يصبح طرح “الدمج” عبارة عن تكتيك سياسي ومناورة إعلامية أكثر منه مشروعاً وطنياً حقيقياً يهدف إلى بناء الدولة. إنه تكتيك هدفه الأساسي إظهار سلطة دمشق بوصفها الطرف “المنفتح على المصالحة” والملقي للعبء على قوات سورية الديمقراطية، في محاولة للتهرب من الاستحقاق السياسي الأصعب وهو الإصلاح الهيكلي. لكن الحقيقة تظل أن لا نظام موجود ليُدمج فيه أحد دون إصلاح، ولا مؤسسات قادرة على الاستيعاب أو التحوّل الحقيقي.

إن التفكير بـ “دستور توافقي جديد” قبل أي ترتيب أمني ليس خياراً تفضيلياً، بل هو مدخل إلزامي لوقف التدهور وإعادة بناء الدولة. لأن الدستور ليس مجرد وثيقة قانونية جافة فحسب، بل هو العقد الاجتماعي المقدس الذي يحدد طبيعة الدولة، وظيفتها، آلية توزيع السلطات، والأهم من ذلك، علاقتها التعاقدية بمواطنيها.

وبدون هذا العقد المؤسس، لا يصبح الجيش مؤسسة وطنية محايدة خادمة للشعب، بل يتحول إلى أداة قمعية أو حامية بيد السلطة الحاكمة، تُستخدم للحفاظ على بقائها وليس على وحدة الوطن وسلامته.

ولهذا نحتاج إلى دستور عصري يقوم على أركان أساسية لا يمكن التنازل عنها:

فصل الدين عن الدولة: لضمان حيادية الدولة وعدم تسييس الهوية الدينية لأي مكون.

اللامركزية السياسية والإدارية: لتخفيف العبء عن المركز وضمان مشاركة حقيقية للمحافظات والمناطق في إدارة شؤونها، مما يخفف التوتر ويقلل من أسباب الصراع.

الاعتراف الصريح بالتعدد القومي والثقافي: لضمان حقوق كافة المكونات، خصوصاً الأكراد وبقية الأقليات، بوصفهم شركاء أصيلين في الوطن.

تحديد صلاحيات واضحة ومقيدة للمؤسسة العسكرية: تضمن خضوعها التام للرقابة المدنية والتشريعية، وتمنع تدخلها في الحياة السياسية أو الاستيلاء على السلطة.

ومن هذا المنطلق فإن أي مسار دمج عسكري خارج هذا الإطار الدستوري التوافقي لن يكون سوى إدماج قسري في منظومة عسكرية غير محايدة ومسيّسة، وفي مؤسسة سياسية ترفض الإصلاح وتتغذى على الأزمة.

قسد ليست هي المشكلة… بل غياب الإطار الوطني الجامع
لنكن صريحين في تقييم المشهد: لا يمكن لقوة بحجم قسد، بـ خبرتها وبنيتها العسكرية المعقدة وتطلعاتها السياسية الذاتية، أن تُدمج في مؤسسة ترفض إصلاح ذاتها أو تعود إلى ممارساتها الأمنية القديمة. كما لا يمكن لفصائل المعارضة المسلحة الموالية لأنقرة أن تتحول فجأة إلى جزء من جيش وطني فعلي، طالما أنها تستجيب لتمويل وتوجيه خارجي بالدرجة الأولى.

تتمحور السردية الإعلامية الحالية حول “قسد” بوصفها العائق أو الطرف الرافض للتسوية، لكن المشكلة أبعد وأعمق من ذلك بكثير. المعضلة الحقيقية هي غياب الدولة نفسها؛ دولة المؤسسات، دولة القانون، دولة العقد الاجتماعي الجديد.

لا يمكن منطقياً أن تطلب من أي قوة أن تتخلى عن سلاحها أو تنخرط في مؤسسة غير موجودة فعلياً، أو لا تتمتع بالحد الأدنى من الشرعية الدستورية والثقة الوطنية. القضية ليست في هوية القوات المتصارعة، بل في غياب الإطار السياسي والضامن الدستوري الذي يعطي لكل قوة مكانها، ودورها، وحقوقها، وواجباتها في سوريا المستقبلية.

الحل الذي أراه واقعياً ومنطقياً هو البدء من النقطة التي يتهرب منها المتدخلين في المعضلة السورية، والتي يخشى النظام الاقتراب منها: صياغة دستور جديد جامع يحدد بوضوح شكل الدولة، نظام الحكم، آلية توزيع السلطة والثروات، ويُعيد تعريف المؤسسة العسكرية لتكون مؤسسة وطنية بحتة.

بعد ذلك، يصبح دمج القوات العسكرية عملية تقنية وتفاوضية طبيعية وناجحة، وليست معركة سياسية أو أداة ابتزاز متبادل.

إن محاولة معالجة الأزمة السورية الممتدة عبر بوابة “دمج قسد” أو أي فصيل آخر قبل حل الأزمة الدستورية والسياسية، هو كمن يحاول وضع سقف لبيت لم تُبنَ جدرانه بعد. إنه تسلسل خاطئ يحكم على أي جهد بالفشل والانتكاسة.

المدخل الحقيقي لإعادة بناء سوريا ليس الدمج الأمني في مؤسسات متهالكة… بل هو التوافق على الدستور الجديد أولاً. ولا يمكن لبلد أن ينهض بـ سلاح متشرذم، أو بحكومة بلا شرعية، أو بدستور بلا توافق. من هنا يجب أن يبدأ أي حوار جدي ومثمر، ومن هنا فقط يمكن لسوريا أن تعود دولةً موحدة ذات سيادة، لا مجرد ساحة صراع لولاءات متناحرة.