المقالات

المقالات

الهجوم لا يروي ظمأ شرڤان

Hussein Omar
  • 11 مشاهدة view


بقلم: حسين عمر
لم تكن مهمّة الاستطلاع هذه كسابقاتها. الهدف يتوسّط ثلاثة أفواج عسكرية، أحدها فوج مدرّع له مراصد مرتفعة، وفي كل مرصد فوهاتٌ طويلة المدى ترصد ما لا يُرصد، وتطلق قبل أن تراه.
تألّفت المجموعة من ثلاثة مقاتلين. أحدهم من أبناء المنطقة، يعرف جغرافيا التلال والوديان كما يعرف خطوط كفّه. هو الدليل، وعليه تعتمد حياتهم.
قال بصوتٍ خافت وهو يمشي في المقدّمة:
– يمكننا الرصد من جهةٍ واحدة فقط. التلّة مكشوفة وضعيفة التمويه. الصخور قليلة، والغابة نحيلة. لا ينبغي لأسلحتنا أن تعكس أيّ ضوء… شعاعٌ واحدٌ قد يطلق علينا الأرض والسماء.
وصلوا إلى التلّة عند الغسق، وبدأوا بالزحف حتى منتصفها، ثمّ توزّعوا خلف ما تيسّر من الصخور والشجيرات. ومن هناك راقبوا.
مع بزوغ الفجر، توقّفت أجسادهم كأنّها تحجّرت. لم يجرؤ أحد على الحركة. أمامهم، تمامًا، كان الفوج الخاص الذي قيل عن عناصره إنهم نُخبةُ النُخب في قوات العدو. كلّ متر حول الفوج مراقب، وكلّ عين فيه مدرّبة.
مرت الساعات بثقل لا يُحتمل. لم يكن الوقوف ممكنًا، ولا حتى القرفصاء. فقط الأرض الباردة صدّيقة، والنفَس مقيّدٌ بالخوف.
لكنهم فعلوها. رصدوا مواقع الحراسة، تتبّعوا تبدّلات النوبات، أحصوا الآليات، ورصدوا غرفةً صغيرةً في السطح، فيها سلاح لم يعرفوه من قبل.
قالت شيندا، وهي تحبس أنفاسها:
– ذلك السلاح غريب… لن يكون عبثًا وجوده هنا.
مع انسدال الظلام من جديد، زحفوا نحو قمة التلّة. كانت خطوتهم مثل ظلّ سنجاب، خفيفة لا تُسمع، لا تُرى. عند صخرة عالية اجتمعوا، وبدأت شيندا تبثّ رسالتها اللاسلكية:
– هلين… هلين.
– هلين كوهداره، أجاب الصوت.
– كور برينداره. (الذئب جريح)
– تمام، عالجوه، ردّ القائد.
أخرجوا ما بقي لديهم من خبز وماء. أكلوا بصمتٍ وابتساماتٍ هامسة. ثم نهضت شيندا، نظرت في اتجاه الوادي، وقالت:
– حان الوقت. سأنزل وأسلّم خريطة الفوج لمجموعة الاقتحام.
في منتصف الليل، كانت كلّ مجموعة قد اتخذت مكانها. السكون كان مخيفًا، والثواني كأنّها حجارة تسقط واحدةً تلو الأخرى فوق صدورهم.
قالت شيندا لقائد العملية:
– فوق السطح… الغرفة التي فيها السلاح الغريب. ينبغي أن تكون الهدف الأول.
أومأ القائد. حمل قاذف الصواريخ، تأنّى لحظة، ثم ضغط الزناد.
في الثانية التالية، لم تبقَ للغرفة ملامح. النار والدخان والارتجاج.
انطلقت الطلقة الأولى، فانهالت الطلقات من كل اتجاه.
تقدّمت شيندا، تصوّب، تزحف، تصرخ:
– لن نتراجع. إنه وقت الانتقام… هذا من أجل شرڤان.
شرڤان، الذي كان صديقها ورفيقها وشيئًا منها. سقط قبل عامين برصاص هذا الفوج، بعد أن وقع أسيرًا ذات كمين. لم يسلّم روحه بسهولة. قاتل، نزف، ثم غنّى قبل أن يغمض عينيه الأخيرة. واليوم، صدى صوته يرافق رفاقه في هجومٍ لا يروي ظمأه.
النار في القلب أقوى من تلك التي في السماء.
صمتت التلال بعد الهجوم. الدخان ظلّ عالقًا في الهواء مثل حزن ثقيل، وأصوات الطلقات بدأت تتراجع ببطء، كأنها تتعب من الصراخ.
تقدّمت شيندا بين الحجارة، تمسح الدم عن جبينها، تتفقّد زملاءها. رأتها ديروك، المقاتلة التي التحقت حديثًا، فركضت نحوها:
– هل أصبتِ؟
– لا… هذا دمٌ ليس لي، ردّت وهي تحدّق بعيدًا، نحو السطح الذي تهدّم.
في تلك اللحظة، أغمضت عينيها للحظة… فتدفّقت الذاكرة.
قبل عامين، في معسكر التدريب، كان شرڤان يقف تحت شجرة توت، يربط رباط حذائه بعناية عجيبة.
قالت له شيندا وهي تضحك:
– لماذا تفعل ذلك كأنك تنقش على حجر؟
– إن انفكّ رباط الحذاء في وسط المعركة، قد تكشفك الخطوة الزائدة.
ثم نظر في عينيها:
– شيندا، إن قتلتُ، لا تكتبي رثاءً. انتقمي فقط.
ثم اختفى في مهمة لم يعد منها. أسرَهُ الفوج ذاته، الفوج المدرّب على سحق الثائرين. سجلوه في نشرة عسكرية كـ”متمرد مسلح، تمّت تصفيته أثناء المقاومة”.
لكنهم لم يعرفوا أنه في الليلة الأخيرة، غنّى بصوتٍ مبحوح مقطعًا من “سار بيره كول” (فوق التل) قبل أن ينزف حتى الصمت.
والآن… ها هي شيندا، أمام جثة قائد الفوج الذي أمر بإعدامه. لم يكن وجهه واضحًا، بين التراب والدم، لكن سترته العسكرية كانت تلمع.
قالت شيندا:
– انتهى… أو هكذا ظننت.
اقترب منها قائد العملية، مدّ لها قارورة ماء.
– أنجزنا الهدف. الفوج لم يعد خطرًا.
– نعم، لكن شرڤان… لم يرجع.
أدار وجهه، وقال:
– نحن لا نُعيد الأموات. نحن ننتقم لهم، ونمشي.
في اليوم التالي، عاد المقاتلون إلى التلّة حيث راقبوا قبل يومين. دفنوا شهداءهم هناك، وكتبوا أسماءهم على الأحجار.
شيندا جلست على الصخرة نفسها، مكانها في منتصف التلة.
كتبت على صفحة دفترها:
اليوم، سقط الصمت من على سطح ذلك الفوج. شرڤان… نفّذت وعدي. لكنني لم أشعر أنني انتصرت. لأنهم سيستمرون. ولأنك لن تعود.”
أغلقت الدفتر، ووقفت.
قالت بصوت لا يسمعه إلا التلّ:
– لا شيء يروي ظمأ شرڤان. لكننا سنواصل، كي لا يُعطش غيره.
2/8/2014