المقالات

المقالات

حفنة تراب على جبل شنگال

Hussein Omar
  • 9 مشاهدة view


حسين عمر

اندفع ميرزو مع الموجة البشرية الهابطة كالسيل، تاركاً وراءه مدينته “شنگال” التي اختنقت برائحة البارود والدخان الأسود. لم يعد عقله يعمل، فقط قدماه تطحنان الأرض، تدفعهما غريزة عمياء: البقاء. بكاء الأطفال وصراخ النساء يمتزج برشقات الرصاص التي تقترب، كأنها سكين تُشرّخ صمت الجبل القديم. بجانبه، رجلٌ تسعيني يهتزّ كورقة خريف، دمعةٌ حارقة تسيل على وجنتيه المُجعدتين كخرائط المعاناة: انظُر! تكبيراتهم… هي ذاتُها… هم هم، لن يتركونا،كما لم يتركوا اسلافنا… ايقظت كلمات الرجل كالصاعقة ميرزو من سُبات الرعب. *زوجتي، أولادي….عڤدال…
اندفع كالمجنون بين الجموع الهارفة، صوته يشرّد الهواء: گليزَر.. گليزَر. على قمة الجبل، حيث التقط الناجون أنفاسهم، لمحت عيناه زوجته بين الصخور. هرع كالنسر الساقط، قلبه يُقلّب صور أطفاله الأربعة… حتى استقرّ على وجه رضيعِه “عڤدال” ذي الثمانية أشهر. احتضنهم، لكن ظلٌّ بارد لفّ قلبه. نظر إلى گليزر… طأطأة برأسها ، اجابت دموعها الصامتة قبل لسانها. خرجت منه صرخة مدوية : “عڤدال؟! أين عڤدال؟!”. لم ترفع رأسها، فقط اهتزّ كتفاها كجناحَي عصفور مكسور.

قرّر ميرزو القيام بما هو مستحيل.

  • اذهبي مع أخي نحو الغرب”،
    استغربت گليزر: “وأنت؟”.
  • سأبقى… حتى أجلب عڤدال، أو أموت.
    قبل أطفاله الثلاثة قبلة الوداع الأخير، وشاهدهم يغوصون في متاهات الوادي نحو المجهول. تسلّق عائداً إلى صخرةٍ مُطلةٍ كحارس أشباح. المدينة تحتها تنزف دخاناً أسود، ودوريات “داعش” تزحف كعقارب سامة. في الليل، حاول التسلل، لكن سيول الفجر كشفت خيوط أمله. عاد يرشف من ماء المطر في كيس نايلون شفاف – دموع الجبل.

أيامٌ ثلاثة وهو يراقب، عيناه تسبحان فوق بحر الطين الذي كان بيوتاً. يتخيّل طفله بين الأنقاض: هل يبكي؟ هل يجوع؟ أم…؟
تاريخ شنگال ينزف في رأسه – فرمانات الجدود، صراخ الخالات المسبيات، جبلٌ شامخٌ ابتلع دموع القرون. رأى دخاناً أسودَ ثقيلاً يلفّ الأفق، ثم انفجاراً هزّ الجبل. ارتطم قلبه بصدره، أهو بيتنا؟ المعبد؟ أم… قبر عڤدال؟
يأسٌ أسودُ أشدّ من دخان المدينة لفّ روحه. رفع كفّيه المُتشبّعتين برائحة التراب والبارود، ولطم وجهه المُنهك: “يا ربّ… أيُذبحُ عبيدُكَ على يد عبادِكَ؟!

ألقى نظرةً أخيرة، كمن يودّع روحاً. المدينة مُوشّحة بالسواد، وعڤدال ضائعٌ في دهاليزها. نزل إلى الوادي، جر رجليه المتعبتين خلفه، لا يريد الرحيل دون عڤدال، فقد الأمل في الوصول اليه ،استنزف كامل طاقته الجسدية والفكرية، قبل الهزيمة للحفاظ على من تبقى، ترك خلفه كيس النايلون الشفاف نصف الممتلئ بماء المطر يلمع تحت شمس آب القاسية، كدمعةٍ متجمّدة على خدّ شنگال.