زيلان
- قصص ثقافية
- 14 أغسطس 2025

-
25 مشاهدة
كانت الليلة هادئة على نحوٍ خادع، مثل سطح بحيرة ساكنة تخفي تحتها تياراتٍ لا تهدأ. جلست هبون خلف زيلان، مستندة إلى جذع شجرة صنوبر يابسة، وبدأت تمشّط خصلات شعرها الطويل بتمهّل. كانت كل خصلة تلتف بين أصابعها مثل خيط أسود من حريرٍ خشن، تعاند الترتيب. جمعت هبون باقة في يدها، وشدّتها قليلاً قبل أن تتركها لتعود وتتعلق بأخرى، وكأن الشعر يأبى أن ينصاع لها.
قالت وهي تنفخ الهواء لتزيح خصلة سقطت على وجهها:
ـ هفال، قصّي شعرك… أليس ثقيلًا فوق رأسك؟
ضحكت زيلان ضحكة قصيرة، أغلقت عينيها واستندت برأسها إلى كتف هبون:
ـ لا، إنه يذكرني أنني ما زلت أنثى، حتى وأنا أحمل الكلاشينكوف.
كانت الثالثة والعشرون قد زارتها هذا العام، خمس سنوات منها ضاعت في الجبال والوديان والمخابئ، بين الكمائن والانسحابات والهجمات المباغتة. ومع ذلك، ظلّ الشعر الطويل آخر ما تبقى لها من ملامح حياتها السابقة، آخر خيط يربطها بالفتاة التي كانت قبل أن تصبح مقاتلة.
صوت صفير خافت اخترق السكون، تلاه اقتراب خطوات. ظهر ريبر، قائد المجموعة، وملامحه تحمل جديّة لم يعتادوها إلا قبل المهام الصعبة.
ـ استعدوا… نتحرك بعد نصف ساعة نحو باكوك.
لم يكن الطريق طويلاً، خمس ساعات على الأكثر، لكنه يمرّ في قلب الخطر؛ قرى معادية، مواقع للعدو، وكمائن مخفية. كان يمكن الالتفاف عبر مدياد وأومريا، لكن ذلك يعني يومين إضافيين من المسير. الجميع فهم الرسالة: هذه الليلة لن تكون عادية.
تحركوا في صف واحد، تفصل بين كل مقاتل وآخر خمسة أمتار. كانت زيلان في الوسط، خلف هوزان مباشرة. الهواء بارد، ورائحة التراب الرطب تلتصق بالأنفاس. كل بضع مئات من الأمتار، يتقدم اثنان لاستطلاع الطريق، بينما يجلس الباقون على أطرافهم، أعينهم معلقة بالظلام، وأصابعهم على الزناد.
همس ريبر، وعيناه تمسحان المنحدر:
ـ رفاق… أعتقد أننا في كمين.
الصمت الذي تلا كلماته كان ثقيلاً، حتى أن دقات القلب بدت كأنها تُسمع. تحركوا ببطء، وكل خطوة كانت تشبه السير على زجاج مكسور. فجأة، تدحرجت صخرة صغيرة من مكانٍ ما، وارتطمت بالأرض بصوت بدا أعلى من الرصاص في آذانهم. تجمدوا في أماكنهم، العيون تبحث عن أي حركة.
ثم انفتح الجحيم. وابل من الرصاص انهمر من جانب الجبل، جعلهم يندفعون أرضاً، يزحفون مثل أشباح فوق التراب البارد. كانت الأوامر واضحة: لا تردّوا، لا تكشفوا مواقعكم. لكن طلقة مضيئة شقت السماء، فرفع هوزان بندقيته وأصابها قبل أن تنفجر وتفضحهم. الرصاص انصبّ نحوه كالمطر، وجذب معه الأنظار بعيداً عن بقية الرفاق.
زلّت قدم زيلان خلفه، ومعها جاء الألم الحارق؛ رصاصة مزقت كتفها الأيمن، شعرت بحرارة الدم تتدفق تحت سترتها. حاولت أن تواصل السير، لكن ثقل الجرح كاد يوقفها. كانت وارشين خلفها، أمسكت بها من خصرها ودفعتها للأمام:
ـ تحمّلي، لم ننجُ بعد.
في تلك اللحظات، كان ريبر ورفيقه قد تقدما مسافة كبيرة، وبدآ بإطلاق رشقات نحو مواقع الكمين، محدثين إرباكاً مكّن البقية من الانسحاب إلى وادٍ منخفض. هناك، جلسوا يتنفسون بعمق، والعرق يختلط برائحة البارود.
تفقدوا الجرحى: إصابة زيلان كانت الأخطر، نزيفها لم يتوقف، لكنهم ربطوا كتفها بضماد ميداني وأجبروها على الشرب. لم تتكلم كثيراً، كانت عيناها معلقتين بالسماء المعتمة، وكأنها تحصي الدقائق حتى الفجر.
ومع أول ضوء، جاء صوت من جهاز اللاسلكي:
ـ المنطقة خالية… يمكنكم التحرك.
تبدد التوتر فجأة، وعادوا يتصرفون كمجموعة أصدقاء أكثر من كونهم وحدة قتالية. غلوا الشاي، ووزعوا الخبز اليابس، وضحكوا على مواقف الليلة الماضية. لكن حين توجهوا نحو زيلان، كانت جديلتاها ملطختين بدم جاف، متيبستين كغصني رمان يابسين. أمسكتهما وارشين وضحكت:
ـ ما هذا الغصن القاسي النابت من رأسك يا هفال؟
ابتسمت زيلان، وفي عينيها لمعة عناد:
ـ ومع ذلك… لن أقصهما. هيا، ساعديني على غسلها.