المقالات

المقالات

مرايا الاستبداد في الشرق الأوسط: هل الصهيونية مجرد سلوك عابر للحدود؟

Hussein Omar
  • 8 مشاهدة view

​بقلم: حسين عمر

​لطالما سكنت مخيلة العقل الجمعي العربي والإقليمي سردية واحدة تتصدر المشهد السياسي، وهي أن “الكيان الصهيوني” هو العدو الأوحد، والشر المطلق الذي يتهدد أمن واستقرار المنطقة. وعلى مدار عقود، استُخدمت هذه السردية كشماعة عُلقت عليها كافة الإخفاقات التنموية والسياسية والحقوقية والفشل في بناء الدولة. ولكن، وبنظرة تفكيكية أعمق للواقع الجيوسياسي والاجتماعي في الشرق الأوسط، نجد أننا أمام إشكالية بنيوية تتجاوز حدود الجغرافيا الفلسطينية المحتلة؛ فنحن بصدد منطقة تعج بكيانات تشترك في السلوك والممارسة، وإن اختلفت في الشعارات والعقائد.

​إن الحديث عن إسرائيل كدولة معادية هو توصيف يرتكز في جوهره على ممارسات الاحتلال، القمع، واغتصاب الحقوق. ولكن، حين نُسقط هذه المعايير ذاتها على خارطة الأنظمة والكيانات المحيطة، نكتشف مفارقة صارخة: فكل الكيانات في هذه المنطقة، بلا استثناء، تمارس نوعاً من العداء الممنهج تجاه شعوبها. لم يعد العداء محصوراً في “الآخر” الغريب، بل أصبح سمة جوهرية في علاقة الأنظمة بالمواطن.

​لقد تحولت الدول في منطقتنا من مؤسسات خادمة للشعب إلى أدوات لقمع الهويات. فكل حكومة داخل حدود سيطرتها، تضع نصب أعينها مجموعة إثنية أو مذهبية أو دينية لتجعل منها عدواً داخلياً أو مواطناً من الدرجة الثانية. هذا الاضطهاد الهوياتي ليس مجرد خلل إداري، بل هو استراتيجية بقاء تتبعها الأنظمة لضمان تفوق فئة على حساب أخرى، مما يخلق حالة مستمرة من الصراع الداخلي الذي يستنزف طاقات الشعوب.

​لا يمكن فصل السلوك القمعي عن أزمة الشرعية. فإذا كانت تهمة اغتصاب الأرض تلاحق الكيان الصهيوني، كذلك تلاحق الكيانات التركية والإيرانية والسورية وحتى العراقية في اغتصاب الأرض الكردية واغتصاب السلطة هي السمة المشتركة لبقية الأنظمة. سواء جاءت هذه الأنظمة عبر صناديق اقتراع شكلية لا تعبر عن إرادة حقيقية، أو عبر التعيينات البيروقراطية المتوارثة، أو حتى من خلال دعم خارجي مباشر أوصلها إلى سدة الحكم لتنفيذ أجندات لا تمت لمصالح الشعوب بصلة.

​إن الأنظمة التي تفتقر إلى التفويض الشعبي الحقيقي تجد نفسها مضطرة لممارسة السلوك الصهيوني تجاه معارضيها؛ فتلجأ إلى العزل، والتهجير، والقمع الأمني، وتكميم الأفواه. وهنا تكمن المفارقة: كيف يمكن لنظام يغتصب إرادة شعبه أن يحرر إرادة شعب آخر؟

​الكرد والفلسطينيون: مأساة الحقوق المسلوبة

​تتجلى ازدواجية المعايير بوضوح عند المقارنة بين القضية الفلسطينية والقضية الكردية. فبينما تتعالى الأصوات (وهي محقة) للمطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني ورفض الممارسات الإسرائيلية، نجد صمتاً مطبقاً أو تبريراً فجاً عندما يتعلق الأمر بحقوق الشعب الكردي في تركيا وسوريا وإيران.

​إن الكيانات الإسلامية والقومية في هذه الدول ترفض الاعتراف بالوجود الجغرافي والتاريخي للشعب الكردي، رغم أن جذوره في هذه الأرض تضرب في أعماق التاريخ، وربما تكون أقدم وأعرق من الكيانات السياسية الحالية التي تحكمهم بالحديد والنار. إن رفض الاعتراف بحق الشعب الكردي في تقرير مصيره أو حتى في مساواته مع القومية الحاكمية في الحقوق السياسية والثقافية، لا يختلف في جوهره الأخلاقي والسياسي عن رفض الحقوق الفلسطينية. فالعقلية التي تقمع الكردي في مهاباد أو ديار بكر أو عفرين، هي ذاتها العقلية التي تبني الجدران العازلة وتصادر الأراضي.

​لم يكتفِ هؤلاء الفاعلون الإقليميون بممارسة القمع الداخلي، بل تحولوا إلى قوى توسعية تمتلك مخالب طويلة تمتد إلى دول الجوار. وإذا كانت إسرائيل تُوصف بالدولة التوسعية، فإن هذا التوصيف ينطبق بالضرورة على القوى الإقليمية التي تتدخل عسكرياً وسياسياً في شؤون الدول الأخرى، محولةً إياها إلى ساحات نفوذ أو مناطق عازلة.

​هذه الكيانات، برغم اختلاف عقائدها (بين العلمانية القومية، والثيوقراطية الإسلامية، والصهيونية)، تتشابه في البروتوكول السلوكي. جميعها تعتمد على القوة الغاشمة، جميعها تخشى الديمقراطية الحقيقية، وجميعها ترى في التعددية العرقية والدينية خطراً على بقائها المركزية.

​آن الأوان للعقل السياسي في منطقتنا أن يتحرر من انتقائية العداء. إن توجيه السهام نحو الكيان الصهيوني وحده مع إغماض العين عن -الصهيونات المحلية- التي تفتك بالشعوب وتصادر حقوق الأكراد والأقليات والمعارضين، هو نوع من التواطؤ الأخلاقي.

​إن العداء للدولة العبرية لا يجب أن يكون صك غفران للأنظمة الاستبدادية. فالمواطن الذي يُسحق تحت آلة القمع في دمشق أو طهران أو أنقرة، لا يرى فرقاً كبيراً بين الجلاد “المحلي” والجلاد “الأجنبي”. إنها منظومة واحدة من الاستبداد تتوزع على خرائط مختلفة بأسماء وشعارات متباينة، لكنها تلتقي دائماً عند نقطة واحدة: سحق كرامة الإنسان وإنكار حقه في الأرض والوجود.

وكنتيجة لن يشهد الشرق الأوسط سلاماً أو استقراراً حقيقياً ما لم تُحاكم الممارسات السياسية بمعيار واحد. فالحقوق لا تتجزأ، والحرية لا تمنح لشعب وتُمنع عن آخر بناءً على العرق أو المذهب. إننا نحتاج إلى شجاعة لمواجهة كل الكيانات التي تعادي شعوبها او الشعوب التي الحقت بها، والاعتراف بأن الاستبداد المحلي هو الوجه الآخر للاحتلال الخارجي.