مصارعة الثلج في مافا
- قصص ثقافية
- 22 أكتوبر 2025
 
										- 
													10 مشاهدة  
													
نظرتُ إليه، وعيناي تبرقان بدمعٍ متجمد، فإذا بابتسامةٍ شاحبةٍ تنبثق من محيّاه، كقمرٍ خافتٍ في ليلةٍ شتويةٍ طويلة. شعرتُ أنه يتألّم بصمتٍ من أجلي، لكنه لم يجد ما يقدّمه سوى تلك الابتسامة الحزينة، هديةً متواضعةً تختزل كل ما في قلبه.
حاول أن ينفخ في روحي بعضًا من الأمل المفقود، فبدأ يسرد حكايات الصبر والانتظار، ويستذكر رفاقنا الشهداء: باز كوباني، ريحان، نذير، سوزدار الذي لم يكن يفارقني يومًا.سوزدار الباكواني /قرية تقع على سفح الجبل المطل على وادي عميق اسمه الكردي -قوريه- وسماه الاتراك بوادي الجحيم لتضاريسه الصعبة/
كان سوزدار قد فقد كفّه حين حاول تفكيك قنبلةٍ، فتمزقت بيديه شظاياها المتطايرة. تحوّل الألم إلى ذكرى موجعة، لكنه لم يستسلم. إرادته كانت أصلب من الحديد، تكيّف مع واقعه الجديد، وسرعان ما أصبح بارعًا في حمل السلاح وتلقيمه ببراعةٍ تُثير الدهشة والإعجاب.
جلسنا نستعيد ذكرياتنا في جبال باكوك وأومريا، نستحضر أطياف الرفاق والرفيقات، من رحل منهم ومن لا يزال على قيد الحياة.
ثم ذكّرني بذلك اليوم المثلج الحاسم، حين اضطررنا إلى مغادرة موقعنا بعد أن اكتشف العدو مكاننا وبدأ يقصفه بوحشية. وبينما كنا نتراجع مبتعدين عن مرمى نيرانهم، اخترق زئير طائرة “أباتشي” سكون الثلوج الكثيفة المتساقطة على جبل “مافا”.
لم يكن أمامنا من سبيلٍ سوى الاحتماء بجذوع أشجار البطم، نتخفّى تحت عباءةٍ بيضاء كي لا تلتقطنا أعين الطائرة الجارفة.
بقينا هكذا أكثر من نصف ساعة، جامدين، كأننا جزءٌ من المشهد الطبيعي ذاته. غطّت الثلوج أجسادنا وتجمّدت على وجوهنا. كدت افقد وعي واستسلم للزحف الموت البيت الذي بدأ يسري في جسدي لولا سوزدالر الذي هزني بلطف، وبدأ بإزالة الثلج عن رأسي التفتُّ نحوه بصعوبة، وحاولت النهوض، جمعت كامل قواي كي اقف على قدمي كي لا اظهر امام الرفاق ضعيفا، مستسلما لصعقة ثلجية يتعرض لها سكان المنطقة كل شتاء دون ان يتأثروا. لملمت ما استطعت من جسدي المتجمد ، ساعدني سوزدار على الوقوف ..
همست له بصوتٍ مرتجف:
“أخبر الرفاق أن يتجمعوا هنا… علينا أن نتحرك فورًا، وإلا سنفقد حياتنا. لا بد أن نجد مأوى جافًا نشعل فيه النار.”
بدأت أقفز في مكاني أستجلب دفئًا ضائعًا، يفعل الرفاق مثلي، يفركون أيديهم ويقفزون في محاولةٍ يائسةٍ لطرد برد الموت الزاحف.
سألت الرفيق مروان، وهو من أبناء المنطقة:
-هل هناك كهف أو مغارة قريبة يمكننا اللجوء إليها؟
فأجاب: نعم يا هفال، هناك كهف واسع في الوادي خلف تلك القمة.
أشرت برأسي وقلت: إنها بعيدة… لكن لا خيار لنا. فلننطلق فورًا.
بدأنا المسير في مواجهة رياح ثلجية تحاول استقطنا، لكننا كنا نتحابل عليها ونحن ننحني بظهورنا الى الامام كي نقلل من ضغط الرياح ونستطيع المسير بين الثلوج التي تصل ارتفاعها الى اكثر من نصف متر، بدانا صراع مع الريح والثلج ، صراع البقاء ..
اشتدت العاصفة، ولسعتنا الرياح القارصة بحبيبات الثلج المتجمّد. فجأة صاح دوارن:
“هفال! الرفيقة سرهلدان لم تعد قادرة على الحركة… أصابعها تجمّدت!”
لم يكن أمامنا سوى حملها على “شَملة” أحد الرفاق الذي خلعها عن خصره مسرعًا لإنقاذها.
أما أنا، فقد بدأت أتداعى من الإرهاق والبرد، أسقط كلما حاولت المشي. في كل مرة كانت يد سوزدار القوية تمتد نحوي، ترفعني وتمنحني القوة للاستمرار.
في تلك اللحظات، شعرتُ كأن الموت يمدّ أصابعه الخفية ليشلّ أطرافي، لكن سوزدار كان يدفعه عني، يوقظ فيّ الحياة مع كل خطوة.
واصلنا المسير وسط العاصفة، حتى بلغنا حافة الوادي. جلسنا ندفع بأجسادنا إلى الأسفل؛ بعضنا تدحرج، وبعضنا انزلق على ظهره أو جنبه، حتى وصلنا أخيرًا.
كان مروان قد سبقنا، وأشعل النار داخل الكهف مستخدمًا أغصان الأشجار اليابسة. لم تستطع أجسادنا المتجمدة احتمال حرارة اللهيب مباشرة، فقد كانت تلسع الجلد كآلاف الإبر الدقيقة.
رويدًا رويدًا، استعادت الوجوه ألوانها، واستعاد البعض وعيهم بعد أن قدّم مروان وسوزدار الشاي للجميع مع قطعة خبز.
ثم ارتفع صوت عكيد الشجي يغني “De Were Siwaro”، أغنيةً حزينة حملتنا على أجنحة نغماتها إلى عوالم أخرى… بعيدة عن صقيع اللحظة، بعيدة عن وجع الحاضر، قريبة من رفاقٍ غابوا في حضن الثلج والذكرى.
