المقالات

المقالات

عندما يبكي المقاتل

Hussein Omar
  • 8 مشاهدة view

لم يكن الغروب سوى ستارة خفيفة تحاول عبثًا أن تغطي جراح التلّةالباكية . الهواء مشبع برائحة البارود، يتصاعد الغبار من بين الحصى كلما اقتربت رصاصة من الصخرة التي احتمى خلفها -باوَر-. بدا المكان كله كجثة كبيرة لم تُدفَن بعد؛ السكون الذي يقطعه الرصاص، والدم الذي يخالط التراب، والسماء التي تحاول أن تلتصق بالأرض لتفهم ما يحدث ولا تفهم. منذ الظهيرة لم يهدأ المقاتلون في التصدي للعدو ثلاثة مقاتلين في معركة وجودية مع اقتراب الليل تغيرت طبيعة المعركة وكثافة النيران.

وقف باوَر وحده، كتفاه تتهدلان تحت ثقل الإرهاق، ويداه تتمسّكان ببندقيته كما لو أنها الشيء الوحيد المتبقي الذي يمكن الاعتماد عليه. خلفه، كانت جثّة الرفيق الأول مسجّاة بكرامة صامتة، وعلى بعد خطوات منه تمدّد “ريبر” وهو يلفظ أنفاسه بصعوبة، كلّ نفس كان يحتاج إلى معركة صغيرة ليخرج.

انحنى باوَر نحو الجريح. لم تكن لديه القدرة على الكلام، لكنه أجبر نفسه على أن يهمس:
هَفال لبرخوبده… هَفال دريدنه ورن بمَفه-قاوم رفيقي، الرفاق بطريقهم لنجدتنا-
كانت الكلمات تهتز بين شفتيه المتيبستين، رجاءه الوحيد هو ان لا يفقد ريبر وعيه ويستسلم لجراحه. أراد فقط أن يسمع منه رفيقه أن هناك سببًا للبقاء حيًّا.

سحب الجريح برفق، وتركه في ظلّ الصخرة، ثم عاد إلى موقعه. كان يعرف أنّ العدو ينتظر أيّ فرصة لإخماد آخر مقاومة في التلّة، وأن خلف تلك الرمال السوداء رجالًا يشحذون أسنان الموت. لم يكن لديه إلا ثلاثة بنادق تركها رفاقه؛ أمسك الأولى، أطلق من خلف زاوية الصخرة، ثم انزلق بسرعة نحو الناحية الثانية وأطلق من البندقية الثانية. كرّر الأمر مع الثالثة، ثم عاد إلى الأولى. كان يعرف أنه لا يخدع العدو فقط… بل يطرد الخوف من داخله أيضًا.

كانت يداه تعملان تلقائيًا، بينما قلبه كان موزّعًا بين اثنين؛ مَن سقط سريعًا، ومن يسقط ببطء أمامه. حاول ألا ينظر نحو الجثة الأولى، لكنه لم يستطع. التفت، ورأى وجه الرفيق وقد هدأ كأنه نام بعد تعب يوم طويل. شعر بشيء ينهار داخله. همس باقتضاب:
يا الله…با الله
ثم عاد إلى إطلاق النار، كأن الرصاصة يمكن أن تعيد ترتيب العالم.

مرّت الساعات كأنها طحنٌ بطيء لعظامه. جفّ حلقه، واحترقت عيناه، واهتزت ركبتاه، لكنه لم يتراجع. كان يسمع أنين ريبر خلفه، انينه يختلط بصوت الرصاص، ويختلط بوعدٍ قديم قطعه منذ بداية الحرب: ألّا يترك رفيقًا يموت وحده.

عندما خفتت النيران فجأة، وخيّم الصمت على الطرف الآخر من التلّة، أدرك باوَر أن الليل وصل. ومعه، جاءت أصوات الدبابات والمشاة—النجدات التي وعد بها. سقطت البندقية من يده دون أن يشعر. لم يعد القتال يعني شيئًا الآن؛ بقيت المهمة الأصعب: أن ينقذ رفيقه، إن بقي لإنقاذه من وقت.

ركض نحو “ريبر” وحمله، كان الجسد خفيفًا بشكل يخيف أكثر مما يريح، كأن الروح بدأت تتحرر منه قبل أن يتحرك خطوة. نزل به نحو الوادي حيث تجمّعت فرق الإنقاذ، ووضعه على الأرض بحرصٍ جعله يبدو كبيرًا في ألمِه، صغيرًا في ضعفه.

اقترب منه وقال بصوت مرتجف:
“هفال ريبر… تسمعني؟”
لم يأته جواب سوى زفير متقطّع.

ظهر المعالِج بسرعة وقال وهو يضغط على صدر الجريح:
– إيّاك أن تدعه يغفو! أبقه مستيقظًا!

ركع باوَر إلى جانب ريبر، أمسك وجهه بيدين مرتجفتين، وهزّه بلطف مشوب باليأس. ارتجف صوته، وانكسرت بعض الكلمات بين دفعات الهواء:
– ريبر هفالو… نجه! از رگادت مه! لبرخوبده… -لا تتركني ريبر لا ترحل- بدأ يهزه يحركه يحاول ..يحاول ..

لكن العينين كانتا تبتعدان. شيئًا فشيئًا، اصبح صوت باوَر يأتي من مكان بعيد، كأنه نداء يغرق في الماء. ثم توقّفت أنفاس ريبر. توقّفت ببطء، بهدوء ليس من طبائع الحرب، هدوء يشبه الباب الذي يُغلق دون ضوضاء.

لم يشعر باوَر في البداية بانه رحل . ظل يهزّ رفيقه، يكرر الاسم، يرفع الرأس، يلمس الصدر بحثًا عن نبضةٍ لا تعود. وحين أدرك الحقيقة، جلس ببطء، كأن كلّ ما في جسده من عظام تحوّل إلى رماد تناثر في المكان.

طأطأ رأسه، وأسنده فوق صدر ريبر البارد ، ثم أُفرجت الدموع. لم تكن شهقة صراخ، ولا نحيبًا مدويًا؛ بل انكسارًا صامتًا، يشبه سقوط حجر في بئرٍ لا قاع لها. ترك الدموع تنهمر على وجه رفيقه، كأنها آخر تكريم لروحٍ قاتلت حتى النهاية.

في تلك اللحظة، عرف باوَر شيئًا لم يعرفه طوال الحرب:
أن البطولة ليست في الوقوف أمام الرصاص، بل في القدرة على البكاء عندما يرحل الذين كانوا يشكلون معنى الحرب نفسه.الذين يشكلون قطعة من الروح