إعادة الإعمار في سوريا هروب إلى الأمام في واقع مُعقّد
- مقالات سياسية
- 16 أغسطس 2025
-
18 مشاهدة
في خضم الدمار الهائل الذي شهدته سوريا، يرتفع خطاب سلطة دمشق حول “إعادة الإعمار” كشعار سياسي برّاق، يُراد منه إيهام الرأي العام المحلي والدولي ببدء مرحلة التعافي والاستقرار. إلا أن هذا الخطاب، عند وضعه تحت مجهر الواقع، يبدو أشبه بـ هروب إلى الأمام؛ محاولة للقفز فوق تحديات جذرية تجعل من أي حديث عن إعادة بناء الحجر أمراً سابقاً لأوانه، قبل إعادة بناء الإنسان والمجتمع والثقة. إن الواقع السوري يعكس متطلبات أخرى أكثر إلحاحاً، لا يمكن بدونها أن تقوم للإعمار قائمة حقيقيةإن حجر الزاوية لأي عملية بناء هو وجود بيئة آمنة ومستقرة. وهذا الشرط الأساسي هو الغائب الأكبر في المشهد السوري اليوم. فإعادة الإعمار ليست مجرد مشاريع هندسية، بل هي عملية تتطلب تضافر جهود كافة مكونات المجتمع. كيف يمكن تحقيق ذلك في ظل:انعدام السلم المجتمعي: الصراعات العنيفة التي تخوضها جماعات محسوبة على السلطة ضد كل من يرفض الخضوع الكامل، تكرّس حالة من الانقسام والخوف تمنع أي تعاون مجتمعي حقيقي.هيمنة الفكر الطائفي: تعمل السلطة وتوابعها على نشر خطاب طائفي يقسّم المجتمع ويزرع الأحقاد ويرفض الآخر، مما يحول دون بناء الثقة اللازمة لعملية وطنية جامعة.غياب التفاهمات الداخلية: يتطلب الإعمار تفاهمات وطنية حقيقية تُبعد شبح العنف والحرب الاهلية وتدفع بكافة الشرائح والمكونات والقوميات للعمل معاً ضمن عقد اجتماعي جديد، وهو ما لا تسعى إليه السلطة الحالية.تكمن المشكلة الثانية في بنية السلطة نفسها. فنحن أمام وطن منهوب ومدمّر، تسوده حالة من انعدام الثقة بين مكوناته، بينما تستولي فئة راديكالية ترفض نطق كلمة الديمقراطية على مفاصل الحكم في دمشق، وتصر على احتكار كافة السلطات. هذه الفئة، التي يصنف بعض أقطابها على لوائح الإرهاب الدولية، تحركها نوازع عقائدية مذهبية طائفية ضيقة. هذه النوازع لم تدمر البنية المادية للبلاد فحسب، بل أطلقت أسوأ ما في النفوس من حقد ورفض للآخر، ودفعت قطاعاً من المجتمع إلى تبني خطاب تكفيري وإعلان حرب جهادية /فزعة العشائر/ ضد بقية ابناء الوطن.لذلك، فإن الحديث عن الإعمار يبدو عبثياً قبل استكمال شروط بناء الوطن نفسه. وهذا يتطلب تحولاً جذرياً في طبيعة السلطة، من سلطة عقائدية إقصائية إلى سلطة وطنية جامعة تحتكم إلى المواطنة والقانون، وتسعى لتأسيس دولة لكل مواطنيها وهو تحول لا تترجمه أفعال حقيقية على الأرض، رغم بعض الأقوال المعسولة التي يطلقها بعض أركانها.على الصعيد الدولي، تم استخدام ملف العقوبات كأداة دعائية للإيحاء بوجود انفراج وشيك. لكن الحقيقة أن ما حدث هو وقف مؤقت للعقوبات وليس رفعاً كاملاً لها. وكما صرح وزير الخارجية الأمريكي، فإن هذا الوقف محدد بفترة 180 يوماً، وهو قابل للتجديد أو الإلغاء بناءً على سلوك النظام. إن استمرارية هذا الإجراء مرتبطة بشكل مباشر بتحقيق مطالب دولية يصعب على تنظيم راديكالي، تأسس على عقيدة “الجهاد” وشرعنه قتل المختلف، أن يحققها، مثل:تحقيق سلم داخلي حقيقي.احترام حقوق الإنسان وإرساء الديمقراطية.التوصل إلى تفاهمات إقليمية معقدة.وحتى لو تم تخفيف بعض العقوبات، فإنها لن تكون كافية لإطلاق عجلة إعادة إعمار واسعة النطاق. فالشركات العالمية لن تغامر برؤوس أموالها وخبرائها في بيئة محفوفة بالمخاطر الأمنية والسياسية، ومصنفة ضمن أخطر دول العالم. إن رأس المال جبان بطبعه، ويبحث عن الاستقرار والشفافية وسيادة القانون، وهي كلها عناصر مفقودة.في المحصلة، إن الدعوة إلى إعادة الإعمار من قبل سلطة دمشق ليست حلاً، بل هي جزء من المشكلة. إنها محاولة لتجميل واقع مرير وتجاوز استحقاقات سياسية واجتماعية لا يمكن تجاهلها. قبل الحديث عن الاعمار، لا بد من بناء الجسور بين مكونات الشعب السوري. وقبل دعوة المستثمرين، لا بد من توفير بيئة يسودها العدل والأمان والمواطنة المتساوية. إن بناء الوطن هو المدخل الحقيقي والوحيد لأي إعادة إعمار ممكنة ومستدامة ، ولا يمكن تحقيق الا بتأسيس عقد اجتماعي يضمن للجميع حقوق متساوية في الدستور الذي يجب ان يحكم به الدولة، دستور ديمقراطي تعددي تشاركي لا مركزي يفصل بين السلطات ويبعد الدين عند الادارة عن السياسة والقيادة.