المقالات

المقالات

حزب العمال الكردستاني يقلب الطاولة . وتركيا أمام مفترق تاريخي

Hussein Omar
  • 13 مشاهدة view

تعيش تركيا، منذ الساعات الأولى للإعلان الأخير الصادر عن حزب العمال الكردستاني (PKK) بشأن سحب قواته إلى خارج الحدود الدولية التركية، حالةً من الارتباك السياسي، وسط صمتٍ رسمي يوحي بعمق الصدمة التي أحدثتها هذه الخطوة غير المتوقعة.

فالمبادرة الكردية الأخيرة لم تكن مجرد إعلانٍ سياسي عابر، بل مثّلت، في جوهرها، تحولًا استراتيجيًا في أدوات الصراع ومفاهيمه. إذ انتقل الحزب من موقع المقاتل المدافع في الجبال لحماية الشعب الكردي من الإبادة الثقافية والسياسية والقومية، إلى موقع النضال السياسي لتحقيق السلام، ساحبًا بذلك راية الحرب – أو حجتها كما يحلو للبعض تسميتها – من يد الرئيس رجب طيب أردوغان، رافعًا أمامه راية السلام على مرأى من العالم بأسره.

هذه الخطوة المفاجئة وضعت أنقرة في موقف بالغ الحساسية. فالحكومة التركية، التي اعتادت استخدام الملف الكردي كأداة تعبئة داخلية وشعار دائم لتبرير سياسات القمع والتوسع الأمني، وجدت نفسها فجأة أمام مشهد سياسي مقلوب: خصمها التاريخي يمد يده للسلام، بينما تبدو هي أسيرة خطاب القوة ورفض الحوار. لكن الظروف الدولية والإقليمية والوضع الداخلي التركي تشكل جميعها تحديًا حقيقيًا للموقف التركي المتشدد.

فعلى الصعيد الداخلي، تأتي هذه التطورات في لحظة ضعف سياسي واقتصادي للرئيس أردوغان. فالتضخم وتراجع قيمة الليرة، إلى جانب الصراع السياسي بين السلطة والمعارضة، أدت إلى احتقان الشارع التركي وفقدان الثقة بالإجراءات الحكومية الاقتصادية والسياسية. ولا يمكن هنا استبعاد الصراع على خلافة أردوغان داخل الحزب الحاكم، والخلافات الظاهرة بين قيادات حزب العدالة والتنمية وحليفه حزب الحركة القومية بزعامة دولت باهتشلي. كل هذه العوامل جعلت موقع أردوغان أكثر هشاشة من أي وقت مضى.

وفي المقابل، تتزايد داخل حزب العدالة والتنمية نفسه أصوات تطالب بفتح صفحة جديدة مع الأكراد، خصوصًا أن جزءًا من القاعدة الانتخابية للحزب يتكوّن من ناخبين أكراد يشعرون بخيبة أمل من السياسات الحالية.

أما خارجيًا، فإن أنقرة تواجه ضغوطًا متنامية من المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية بشأن الملف الكردي وعملياتها العسكرية في شمال سوريا والعراق. المبادرة الأخيرة من حزب العمال الكردستاني، إذن، جاءت لتُحرج تركيا أمام العالم وتجعلها تبدو كمن يرفض اليد الممدودة للسلام.

ما يميز هذه المرحلة عن محطات سابقة هو تغيّر المزاج العام داخل تركيا، حيث بدأت تظهر بوادر “إرادة سياسية” لدى بعض الأحزاب القومية واليمينية المتشددة – التي كانت حتى وقت قريب تصطف خلف خطاب الدولة الأمنية – للإصرار على فرض الحلول العسكرية واستمرار الحرب وتهميش المجتمع الكردي وتمزيقه، ورفض أي شكل من أشكال الاعتراف به، بما في ذلك فرض الاستسلام عليه واستمرار عملية التتريك المستمرة منذ مئة عام وحتى اليوم.

ومردّ هذا التحول ليس بدوافع إنسانية، بل من إدراكٍ متزايد لدى النخب السياسية بأن استمرار الحرب مع الأكراد يستنزف قدرات الدولة ويعمّق الانقسامات الاجتماعية، مع تخوفٍ متزايد من أن يؤدي ذلك إلى تقسيم تركيا، في ظل أطراف إقليمية ودولية متربصة تنتظر الوقت المناسب للتدخل وفرض التقسيم – كما يصرح بذلك بعض القادة الأتراك أنفسهم.

إن إصرار أردوغان على تجاهل هذه المتغيرات سيضعه أمام مأزق مزدوج: داخليًا بفقدان السيطرة على المشهد السياسي والاقتصادي، وخارجيًا بعزلة دولية متزايدة قد تُضعف موقع تركيا الإقليمي.

يبدو واضحًا أن الكرة الآن في ملعب أردوغان. فإذا اختار مدّ يده إلى راية السلام التي قدمها له الزعيم الكردي عبد الله أوجلان من معتقله في جزيرة إيمرالي، فقد يدخل التاريخ كزعيم أنهى أحد أطول النزاعات في الشرق الأوسط. أما إذا أصرّ على رفع “راية الحرب” من جديد، فسيكون عليه مواجهة موجة جديدة من الصراع الداخلي الذي لن يرحم نظامه السياسي هذه المرة.

في المحصلة، لا يمكن النظر إلى مبادرة حزب العمال الكردستاني بمعزل عن السياقين الإقليمي والدولي، فهي جزء من إعادة تشكّل موازين القوى في الشرق الأوسط، حيث تتراجع لغة السلاح لصالح مشاريع التسوية.

لكن تركيا، التي طالما استخدمت الصراع الكردي كذريعة لتوحيد الداخل، قد تجد نفسها هذه المرة أمام حقيقة جديدة: أن مستقبلها المستقر لن يُبنى إلا بالاعتراف بالآخر، لا بإلغائه.