المقالات

المقالات

في قلب المعركة: أنين الجبال ولهيب الأمل

Hussein Omar
  • 15 مشاهدة view

الفصل الأول: شفق زاغروس البارد

عفرين، شتاء 2018

لم تكن السماء مجرد غطاء للظلام في تلك الليلة، كانت جرحاً مفتوحاً يئنّ بالبرد، وكأنّ برودة صقيع زاغروس قد انغرس في عظام الكون. في قلب هذا العويل السكوني، انسابت سبعةُ ظلال، لا كبشر يسيرون على الأرض، بل كأرواح تسكن التلال الصخرية المغبّرة. كان كل مقاتل كردي منهم يخطو بخفة تماثل رقصة الأشباح، والتراب يتفجر أملا، ليس بحمل السلاح فحسب، بل بوزن قرون من المقاومة لم تنطفئ.

لم يكونوا مجرد مجموعة من وحدات حماية الشعب؛ بل كانوا خلاصة حلم مؤجل. كل رصاصة في جعبتهم كانت موصولة بذاكرة جدّ حارب في سهول خابور، وبنظرة طفل وُلد على وعد الحريةفي كوباني.

ريزان، القائد، كان يتقدمهم، وكأنّ الأرض تعرف خطاه. ملامحه، التي نحتها النضال كصخرة جبل ليلون، لم تكن مجعدة من العمر بقدر ما كانت من طول حمل العبء. تحت قبعة الصوف المهترئة، كانت عيناه تلمعان ببريق وحشي، بريق يشبه جمر البلوط تحت الرماد؛ عنيد، حارق، لا يعرف الاستسلام. كان يهمس لهم بالأوامر بصوت أجشّ بالكاد يُسمع، لكنه يتردد في الصدور كأنه بحة التاريخ نفسه.

كان الهدف بسيطاً كقُبلة، وعظيماً كأمنية: إنقاذ رفاقهم المحاصرين في القرية. لكن في تلك الأرض الموبوءة بالبارود والغدر، لم تكن الأهداف تُمنح بسهولة.

عندما وصلوا إلى نقطة شفق الذئاب، حيث يتعانق الصخر مع العتمة، شعر ريزان ب وخزة باردة في معدته. لم يكن شعوراً بالخوف، بل بإحساس الذئب المخضرم الذي يشم رائحة الكمين قبل أن يراه.

الفصل الثاني: اندلاع الجحيم الصامت

من العدم، انشقت ظلال الليل. لم تكن نوبة إطلاق نار، بل انفجار لجحيم كان كامناً. فصائل الاحتلال التركي ومرتزقته السوريين ، فتحوا عليهم أبواب جهنم.

تطاير الغبار والصخور في سيمفونية من القصف. كان لديهم القليل: فوهات “كلاشنكوف” أربعة، بندقية “إم-16″ واحدة، و”بيكي سي” يزمجر بصوت الموت، وقاذف “آر بي جي” بأربع قذائف يائسة. لكن السلاح الحقيقي، الذي لا يُفنى بالرصاص، كان الإيمان القاسي بأنّ ما يقاتلون من أجله يستحق أن يكون الرصاصة الأخيرة.

تحت هذا المطر النحاسي، ارتجّت الأرض، وكأنها قلب أمّ فُجعت لتوّها.

صرخة حادة اخترقت هدير الموت. كان صوت شيار، الأصغر بين المقاتلين، لكنه الأشدّ اندفاعاً، وقد تضاعف صوته لا خوفاً، بل غضباً على البرودة التي اخترقت جلده والنيران التي تمطر من السماء:

– يا ريزان! الذخيرة… تكاد تختنق في صناديقها!

التفت إليه ريزان. في تلك اللحظة، لم يكن يرى شياراً الشاب المرتجف، بل رأى الجيل التالي لروجآفا. وضع يده على كتفه، وقوته الساحقة نقلت إليه دفئاً يشبه دفء الأب وصرامة القائد:

-نحن درعُ شعبنا، يا شيار. إن سقطنا هنا اليوم، سيتم سحق رفاقنا المحاصرين كبذرة تحت حجر. علينا أن نصمد… لا من أجل البقاء، بل من أجل أن تبقى هذه الأرض وناسها.

أشار إلى الوادي. ذكره ب القرية التي كانت تتلألأ في عمقه كنجوم سقطت على جبين الليل.

سننضرب بقوة ونشقّ طريقنا. شيار، جهّز الآر بي جي. الآن، حان وقت الحقيقة. كاوا، غطّنا بالبيكي سي.

الفصل الثالث: ثمن الكرامة

ارتفع صوت كاوا، الذي كان يضغط على الزناد بوحشية أسطورية تذكر بـ “كاوا الحداد” القديم. كان يحصد الرصاص حصداً، غير آبه بما يأتيه من الجهة الأخرى.

انطلقت القذيفة الأولى من الآر بي جي، كصيحة غضب مطلقة، شقت الظلام إلى نصفين، لترتطم بهيكل دبابة معادية. صعدت كرة من اللهب والسخام، ارتجّ لها الوادي حتى ظنّ ريزان أنّ الجبال نفسها قد أفاقت من سباتها.

لكن ردّ الخصم كان مضاعفاً. جدار ناري انهمر، يطارد كل ظل وكل صخرة.

فجأة، اهتزت بندقية كاوا، وسكت صوتها. صرخة مكتومة. طلقة غادرة، كالقدر، مزقت كتفه الأيمن. سقط كاوا أرضاً، والدماء بدأت ترسم على الثلج المحيط به خريطة حمراء. لكن روحه لم تسقط. بيدٍ يرتعش منها الألم، ظل يضغط على زناد الـ”بيكي سي” المشتعل حتى آخر نفس، حتى صار جسده امتداداً لسلاحه.

صرخ ريزان، لا كقائد بل كأخ، وهو يسحبه خلف صخرةٍ عملاقةٍ:

تماسك يا كاوا! لا تمُت الآن! ليس الآن!

أدرك ريزان الكارثة. الذخيرة لم تعد تكفي لطلقة أخرى ذات معنى. لقد أصبحوا الآن مجرد أهداف. عيناه حرقتا الظلام بعزم لا يُقاوَم.

حينها اتخذ القرار، القرار الذي يجعلك تخطو نحو الموت لتهدي الحياة للآخرين. القرار الذي يُصاغ من تراب الوطن ودم القلب.

-شيار، اسمعني جيداً! كانت نبرته كوصية تُتلى للمرة الأخيرة. “خذ الرفاق الخمسة. واصلوا الطريق نحو القرية فوراً. أنا وكاوا سنغطي انسحابكم ونحتفظ بهذا الموقع لأطول فترة ممكنة.

ارتجف صوت شيار، وقد مزّقه الألم بين الولاء والطاعة: “لن نترككم، هفال ريزان!

أمسك ريزان بكتف شيار، قوته تضغط على عظام الشاب. “القرية هي الأمل اخراج الرفاق منها هو الهدف، يا هفال. أنتم حَمَلةُ الحلم. اركضوا، لا تلتفتوا خلفكم، ولا تدعوا الموت يشغلكم عن الحياة. اذهبوا… واحكوا حكايتنا للناس.

نهض ريزان. أدار ظهره لرفاقه ووجهه للسماء التي اشتعلت الآن بلون قرمزي بسبب الانفجارات. ابتسم ابتسامة خفيفة، كمن صافح القدر أخيراً ووجده صديقاً.

المشهد الأخير: نشيد كردستان

تراجع الخمسة الباقون. خطاهم ثقيلة، لكنها مدفوعة بضغط ريزان وكاوا الذين فتحا عليهما ناراً كثيفة لم يتبقَ منها سوى القليل.

كان هدير الـ”بيكي سي” يزمجر في الوادي كأنه النشيد الأخير لكردستان قبل أن يسكت إلى الأبد. قاتلا بعنفوان الجنون، لم يعد القتال بقاءً، بل أصبح إعلاناً للعناد.

استمر الرشاش يصرخ، ثم خفت صوته شيئاً فشيئاً، اختلط دخانه الأسود بأنين الريح وصوت القصف البعيد. ساد صمت موحش، صمت الموت الذي ابتلع بطولتين.

وصلت المجموعة المنهكة إلى مشارف القرية، حيث تتأرجح أضواء النوافذ خجلاً.

توقف شيار، لم يستطع المضي قدماً. نظر خلفه نحو التلال التي ابتلعت الأصوات والآمال. دمعة واحدة هاربة، دافئة كدم الأبطال، شقت الغبار على وجنته. تمتم بصوت متهدج يخترقه الوعد:

رح نحكي عنكم، يا ريزان… يا كاوا. رح نحكي عن اللي قاتلوا حتى صاروا حكاية… حكاية روجآفا.

ثم ساروا. خطواتهم لم تعد خطوات جنود عائدين، بل خطوات حاملي الوديعة، مثقلة بالدم والكرامة، يحملون على أكتافهم ذاكرة سبعة تحدّوا المستحيل، ليبقى الحلم حيًّا في قلب تلك الجبال العنيدة.