- مقالات سياسية
- 05 نوفمبر 2025
-
2 مشاهدة
أيُّهما ينتصر في سوريا: مبادئ الديموقراطية الأميركية أم مصالح واشنطن الجيوسياسية؟
صفقة دمشق – واشنطن: لعبة المصالح الكبرى التي قد تعيد رسم خريطة الشرق الأوسط

نسخ الرابط المختصر
حسين عمر
من قلب دمشق، تُدار اليوم واحدة من أشد الألاعيب السياسية تعقيداً في المشهد السوري المعاصر. الترقّب في هذه المرة ليس شاخصاً صوب طهران ولا موسكو، بل صوب واشنطن. فالحكومة السورية المؤقتة تسعى إلى عقد صفقة “وجودية”، من شأنها – إن حصلت – أن تقلب موازين القوى رأسًا على عقب، وأن تضع صدقية الإدارة الأميركية أمام اختبارٍ لا هوادة فيه.
تتركز ديبلوماسية الحكومة السورية المؤقتة، ومن خلفها تركيا ودول الخليج العربي، على هدفٍ مزدوج: أولًا، الحصول على اعترافٍ سياسي كامل متضمناً إزالة كل العقوبات المفروضة على سوريا؛ وثانيًا، إقناع واشنطن بفك تحالفها الاستراتيجي مع “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) في الشمال السوري، واعتماد الفصائل المسلحة التابعة لها، تحت مسمّى “الجيش السوري”، شريكاً بديلاً ووحيداً.
لا يعكس هذا المشهد تحوّلاً في موازين القوى فحسب، إنما يمثل إعادة تشكيلٍ جذرية للتحالفات الأميركية في الشرق الأوسط.
تشير البيانات الميدانية إلى أن “حكومة دمشق” تعيش اليوم حالاً من الجمود الاستراتيجي الهش، بانتظار ما ستؤول إليه زيارة الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع إلى واشنطن، والتي حددها المبعوث الأميركي توم برّاك في 10 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري. ولهذا، جُمِّد التفاوض مع “قسد”، وعُلّق ملف السويداء، وتُرك الساحل في مهبّ رياح المجموعات الجهادية التي تغتنم فرصة صمت العالم وضعف الحماية لتنفيذ عمليات نهب وخطف وقتل من دون رادع، ولا تُتّخذ قرارات مصيرية، ولا تُشنّ عمليات عسكرية كبرى بانتظار نتائج محادثات واشنطن الحاسمة. فالولايات المتحدة هنا ليست مجرد وسيط، إنما هي الطرف الذي يملك مفتاح “الشرعنة الدولية”.
الخطر الأكبر يكمن في ربط هذا المسعى بمصالح إقليمية أوسع. فثمة تقارير تلمّح إلى أن صفقة واشنطن قد تكتمل بتوقيع اتفاقيات – أو التعهّد بتوقيعها – قبل نهاية العام، وربما يتم ذلك بالتنسيق مع إسرائيل أو برعايتها. هذا التحالف غير المتوقع – إن تمّ – لا يمنح حكومة دمشق الضوء الأخضر للتحرك فحسب، إنما لتحويل الجغرافيا السورية قاطبةً إلى ساحة تصعيدٍ عسكري شاملٍ ومُبرمَج، بذريعة “محاربة الإرهاب”. إلا أن المفارقة هنا تكمن في التعريف المنحرف والجذري الجديد لهذا المفهوم في قاموس دمشق الرسمي، حيث ما عاد “الإرهاب” مختوماً بختم “داعش” والجماعات الجهادية المنضوية تحت لواء “الجيش السوري”، بل أصبح يشمل الخصوم السياسيين والعسكريين الأساسيين الذين يرفضون سيطرتها المطلقة من دون وجود ضماناتٍ دستوريةٍ تحمي حقوق الأقليات والطوائف المختلفة. هؤلاء يُوصَفون اليوم بـ”الإرهابيين”، وكل الإعلام الحكومي موجَّه ضدهم.
المناطق المستهدفة بسمة الإرهاب الجديدة هي مناطق الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، وهي القوة التي تحظى بالدعم الأميركي، وتُعدّ المنافس الأبرز على الأراضي والموارد، والتي قضت على “دولة داعش” وحرّرت شمال الفرات وشرق من قبضته، وأقامت نظاماً مجتمعياً يسوده الأمان والاستقرار، وبنت إدارةً مدنية لتسيير شؤون المواطنين وتأمين احتياجاتهم الحياتية؛ ومناطق الحراك الشعبي في السويداء التي برز خروجها عن السيطرة بعد المجازر التي ارتكبتها المجموعات الجهادية بحق الموحدين الدروز الذين دافعوا عن أنفسهم واستطاعوا تأسيس نواة إدارةٍ ذاتية محلية؛ ومنطقة الساحل ذات الأغلبية العلوية، التي تعيش حتى اليوم كابوس المجازر التي ارتكبت فيها ببدايات عهد الشرع في دمشق.
في المقابل، تختفي مفردات “داعش” و”الإخوان المسلمين” و”جبهة النصرة” من الخطاب الرسمي بوصفها جماعاتٍ إرهابية وفق التصنيفات الدولية، في تناقض صارخ يؤكد أن الأولوية لم تعد أيديولوجية أو أمنية دولية، إنما صارت جيوسياسية بحتة، هدفها تصفية منافسي دمشق المحليين بـ”شرعنةٍ أميركية”.
نحن إذًا أمام محكٍّ أخلاقي وسياسي حقيقي. فالاختبار لم يعد موجَّهاً إلى حكومة دمشق وحدها، بل إلى الإدارة الأميركية نفسها أيضاً. لقد رفعت واشنطن شعارات الديموقراطية وحقوق الإنسان ومحاربة التطرف سنوات عدة، لكن هذه الصفقة المحتملة تضع تلك الشعارات على طاولة المزاد العلني.
فهل ستتمسك واشنطن بمبادئها وترفض منح كيانات لا تختلف أيديولوجياً وعملياً عن التنظيمات التي تدّعي محاربتها الشرعية؟ أم أن حسابات المصالح الضيقة، والرغبة في إبرام صفقاتٍ إقليمية عاجلة، ستجعلها تتغاضى عن هذا التناقض الجوهري؟
سيكون للقرار الذي ستتخذه واشنطن قريباً أثرٌ يتجاوز حدود سوريا؛ فإمّا أن يُعيد تأكيد المبادئ الأميركية، وإمّا أن يكشف أن “محاربة الإرهاب” مجرد سلعةٍ قابلةٍ للتفاوض في سوق السياسة الدولية، حتى لو كان الثمن هو شرعنة قوى متطرفةٍ في قلب عاصمةٍ عربية. وهذا بذاته يهدد بإشعال فتيل صراعٍ جديدٍ وشاملٍ في المنطقة، وسينعكس في نهاية المطاف على المصالح الأميركية نفسها، تماماً كما حدث في أفغانستان.
