الجديلة التي انقذت دجلة
- Uncategorized, قصص ثقافية
- 19 أكتوبر 2025

-
2 مشاهدة
لم تكن زوزان الوحيدة التي تعاني من طول جدائلها , لكنها كانت أكثرهم ارتباطا” بها , فهي وحسب زوزان تعطيها الاحساس بالانوثة وتصبغ على المرأة جمالية .ولهذا كانت ترفض قص جدائلها بالرغم من أنها كانت تسبب لها اشكالية عند هبوب الرياح وهي حاملة سلاحها على كتفها ,كل مرة تنتشل فيها جديلتها السوداء الطويلة من على سبطانة البارودة، كان الألم يفتح بابًا في ذاكرتها، بابًا يفضي إلى جرحٍ لم يلتئم.ذاك الألم هو نفسه الذي شعرت به طفلةً في قريتها الجبلية في الشمال، حين تشابكت جديلتها بغصن شجرة وهي تهرب مع عائلتها تحت قصفٍ مدفعيٍّ تركي.وهو ذاته الذي رافقها في أولى معاركها، حين أعاقتها الجديلة لحظةً واحدةً فقط، كانت كافية لترى رفيقةً لها تسقط إلى الأبد على بعد خطواتٍ منها.زوزان، المرأة التي صقلتها الجبال والسهول اضرارا ومثابرة، وجدت في جدائلها نقطة ضعفها الدائمة. لوّحت في العديد من المرات بالمقص أمام رفيقاتها ضاحكةً متوعِّدةً بقصّها، لكنها لم تفعل.كانت الجدايل أكثر من شعرٍ طويل؛ كانت سجلها الشخصي، خيط الزمن الذي امتدّ من طفلةٍ خائفةٍ إلى مقاتلةٍ أسطوريةٍ تُرهِب داعش في جبهات كوباني.في المقابل كانت هناك دجلة، المقاتلة الشابة التي لم تتجاوز العشرين، على النقيض من زوزان.قصّت شعرها منذ اليوم الأول من إنضمامها للمعركة، بملامحها الحادةٍ وعينان تلمعان كحدّ السكين.كانت تنظر إلى جدائل زوزان بإعجابٍ حائر، تلمسها أحيانًا بخفة، كما لو كانت تلامس تاريخًا لا تجرؤ على عيشه.قالت في إحدى الليالي، وهما تحت ضوء مصباحٍ خافتٍ في غرفة العمليات المؤقتة:”ألم تكوني لتتخلي عنها لو كنتِ مكاني؟”نظرت زوزان إلى انعكاسها الباهت في زجاج النافذة المغبرّ، وقالت بهدوء:”هذه الجدايل هي آخر ما تبقّى من تلك الفتاة التي كنتُها.كل معركةٍ، كل فقدانٍ، كان يقتطع جزءًا من روحي…لكن الجدايل كانت تنمو. كانت تذكّرني أن شيئًا ما، رغم كل هذا الدمار، لا يزال حيًّا وينمو.”لم تفهم دجلة تمامًا، لكنها شعرت أن تلك الكلمات تُعطيها احساسا بالقوة والآمان.لم تختلف معركة ضواحي كوباني عن سابقاتها… إلا في لحظةٍ واحدةٍ حرجة.حين اخترق عددٌ من المسلحين الخطوط الدفاعية، ووجدت زوزان ودجلة ومقاتلان آخران أنفسهم محاصرين داخل مبنى نصف مهدّم.الذخيرة تنفد، والاتصال مقطوع، والخوف يتكاثر في العيون.في تلك اللحظة، بينما كانت دجلة تبكي بصوتٍ مختنق، فكت زوزان جدائلها بيدٍ مرتعشة.شعرت بالهواء يلامس رقبتها لأول مرة منذ سنوات،سرت إحساسًا غريبًا يجمع بين الضعف والتحرر في جسدها،همست بصوتٍ خافتٍ لكنه ثابت:”لا مكان للخوف هنا.”ثم أخرجت من جيبها خيطًا قويًّا، وربطت جديلتها الطويلة حول معصم دجلة اليسرى، عقدةً بعد عقدة، كتميمةٍ مقدسة.قالت وهي تشدّ العقدة الأخيرة:”هذا ما تبقّى مني.سيحميكِ… وسَيُذكّركِ أننا لا نستسلم.لم تعد الجديلة شعرًا بشريًّا، بل أصبحت رايةً، وعهدًا، وامتدادًا للروح.نجت زوزان ودجلة من تلك المعركة، لكن شيئًا ما فيهما تبدّل إلى الأبد.بعد التحرير، لم تُترك زوزان شعرها اطول مجددًا.قصّته حتى كتفيها،، لكن فيه أنوثةٌ هادئة تشبه السلام بعد العاصفة.أما دجلة، فقد احتفظت بالجديلة ملفوفةً حول معصمها، تُخفيها تحت كمّ زيّها العسكري، وتلمسها كلما ترددت أو شعرت بالضعف.وفي إحدى الليالي، بينما كانت تتفحص الجديلة تحت ضوء القمر، أدركت أنها لم تعد مجرد تذكار.لقد نمت في داخلها، أصبحت جزءًا من قوتها، كأن روح زوزان وتجاربها تسري في عروقها مع كل نبضة.لم تعد الجديلة نقطة ضعف.لقد غدت رمزًا للقوة التي تنتقل من امرأةٍ إلى أخرى، من جيلٍ إلى جيل…كالقضية التي يقاتلن من أجلها : قضية لاتموت.