النسر المقاتل: ساعة الالهام في بوتان
- قصص ثقافية
- 19 نوفمبر 2025
-
2 مشاهدة
حسين عمر
ظلّ التوتر يخنق الأجواء حول شاهين، يُصارعُ هدوءاً مفتعلاً يأبى أن يتجذّر في روحه المضطربة. لم يجد مهرباً من قلقه سوى بين أنامله، حيث راح يلفّ سجائره الواحدة تلو الأخرى، مستخدماً تبغ جيب سرواله كـ “قرابين صغيرة” يقدمها لعصاب متأجج.
كان جهاز اللاسلكي المسند إلى صخرة مرتكبة بجانبه، وكأنه كائنٌ حيّ، لا يملك لحظة صمت؛ فـالعدو يهمس عبر أثيره عن حراك غير طبيعيّ. في المقابل، كانت زوزان تمده بـ “بارقة طمأنينة” أولية؛ فالوضع على مرمى بصرها هادئ، والحركة مقتصرة على تبديل الحرس.
شغل شاهين ذاته بمحاولات مستميتة للاتصال برفاقه الأربعة الذين ابتلعهم غبار الكمين، صائحاً بلهفة: “ناف خوش، ناف خوش ياهو برسف بده (أجِبْ)!”. تساءل بينه وبين نفسه بمرارة: أيعقل أن يكونوا قد ارتقوا؟ ثم نفض الفكرة سريعاً: لا، لا… لابد أنهم في ثغرٍ لا يستطيع إشارتنا اللاسلكية بلوغه.
اقترب منه سيدو بهدوء يكسر حدة الترقب: هل نضع إبريق الشاي على النار؟ لا مفر من البقاء هنا حتى المساء، فلنتناول الفطور.
كانت عقارب الساعة تناهز الحادية عشرة. مرّ الوقت بتثاقل رهيب، كل دقيقة كأنها صخرة تُضاف إلى حمولة الصدر. كان شاهين ينتظر بفارغ الصبر أن تدق الثانية بعد الظهر، تلك “ساعة الاطمئنان” التي يعود فيها العدو إلى مراكزه وينسحب من النقاط الأمامية. بعد الثانية، حتى لو اشتعلت المعركة، فإنّ ظلّ المغيب سيصير حليفهم، ومواقع العدو المنتشرة هدفاً يسيراً.
لم تمضِ نصف ساعة أخرى حتى اخترق صوت آمَد حاجز الصمت الهش: زاغروس، زاغروس…
فأجاب شاهين متيقظاً: زاغروس كوهداره (يستمع).”
“هفال، الجو غائم، هناك احتمال لسقوط الأمطار.”
“تمام هفال، اتخذوا تدابيركم!
صرخ شاهين في رفاقه بلهجة آمرة لا تقبل التردد: ابتعدوا عن بعضكم! اختبئوا خلف الصخور والأشجار! لا تتركوا شيئاً مكشوفاً في العراء!
لم يُنهِ جملته بعد، حتى انقضت طائرة إف-16 كالسهم فوق رؤوسهم، مُصدرةً صوتاً هائلاً، ظنّ البعض أنه صوت برميل متفجر قد أُلقي. تلتها مقاتلة ثانية، ثم ثالثة. وفي الجهة المقابلة، كانت مروحية كشفية تحلّق بمحاذاة جبل هركول، الذي يُرجح شاهين تمركز طابور الشهيد هوكر فيه.
لكن ما أثار قلقه هو توجّه المقاتلات نحو Kêla memê، ذلك الجبل الحصين. زاد الطين بلّةً ظهور كشفية أخرى في الشمال فوق نقاط تمركز قوات منطقة بستا. أدرك شاهين المخطط بذكاء حاد: الأرصاد قد لاحظت شيئاً ما! والعدو يحاول تتبّع الهدف عبر الكشفيات، والمقاتلات في الجو جاهزة للانقضاض فور تحديد الإحداثيات.
دائرة النار تضيق
حلّت الثانية عشرة وعدة دقائق، فعادت طائرات الإف-16 تحوم حول منطقة تواجدهم. أخذت المقاتلات الثلاث تشكّل طوقاً يضيق على المنطقة بأكملها، وكأنها تحاول رسم دائرة القصف. ما طمأن شاهين هو غياب القوات المعادية البرية القريبة؛ فاحتمال إصابتهم سيكون محدوداً ما لم يُستهدف موقعه بدقة متناهية.
استمرّ الحصار الجوي. بلغت الساعة الواحدة والنصف، والطائرات ما زالت تُحلّق بلا كلل. لم يشهد شاهين من قبل بقاءً كهذا؛ ففي العادة، لا تتجاوز فترة القصف والتفريغ نصف ساعة.
وفيما كان شاهين منهمكاً في جهاز اللاسلكي، صدح صوت جمشيد مرتجفاً: هفال! هفال! طائرة تتجه نحونا!
رفع شاهين رأسه قليلاً، وإذا بتلك “المجرمة” كما أسماها، تنحدر بخفّة، مُخفّضةً ارتفاعها ومُبطئةً سرعتها.
-هفالنو انتبهوا! ستطلق قذائفها! الطائرة تتخذ وضعية القصف…
شدّت العيون كلها إلى الأعلى، وكلّ مقاتل في موقعه ينتظر لحظة إطلاق “البرميل” أو “الصاروخ الموجّه”. وصلت الطائرة فوقهم تماماً، لكنها أطلقت صاروخها نحو نقطة تمركز قوات منطقة بستا. لحقت بها الثانية وأطلقت صاروخاً في المكان نفسه، ثم الثالثة، وعادت الأولى لتكمل دورتها وتقصف من جديد.
تنفس شاهين الصعداء بعد أن اتضح أنهم ليسوا الهدف المحتمل. كما أن النقطة المُستهدَفة كانت محصنة بعدة كهوف عميقة في أسفل الوادي، بسماكة أسطح تُقدّر بأكثر من ثلاثمائة متر، ما يجعل الصواريخ والقنابل غير ذات تأثير كبير عليها.
ابتعدت الطائرات الكشفية شيئاً فشيئاً، ثم غابت أصوات الإف-16. بعد دقائق من التأكد، كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة عصراً.
طلب شاهين من المجموعة الاستعداد للتحرك نحو كارسا. حاول بعض الرفاق التعلل بضرورة شرب الشاي قبل المسير. ضحك سيدو قائلاً: هفال، لقد أكلنا أرغفة الخبز على أصوات القصف! دعنا نشرب الشاي بهدوء الآن.
لكن حجة شاهين كانت أقوى؛ فهو يريد الوصول سريعاً. قال بحسم: “المسافة ليست ببعيدة. بدل أن ننتظر حتى يجهز الشاي ونشرب، سنكون قد وصلنا هناك! هيّا هفالنو، سنبدأ بالمسير.
