المقالات

المقالات

تركيا بين مأزقها الداخلي واحتمالات التفاهم مع قسد

Hussein Omar
  • 83 مشاهدة view

من البداية، لا بد من التأكيد على أنّ أي تفاهمات أو اتفاقيات بين طرفين تحددها الظروف الموضوعية التي يمران بها، وخاصة إذا تعلق الأمر بالحكومات التي تبحث عن تثبيت أركانها وإرساء حالة من الاستقرار داخل دولها. ففي لحظات الأزمات الكبرى، تميل هذه الحكومات إلى إنهاء حالة العداء مع الطرف المقابل، حتى لو كان بالأمس القريب خصمًا عنيدًا. هذه الحقيقة تفتح المجال واسعًا أمام جميع الاحتمالات، خصوصًا في ظل الأوضاع العالمية والإقليمية الراهنة، التي لا تصبّ إطلاقًا في صالح تركيا ولا تتماشى مع سياساتها العدائية.

تركيا اليوم، وبحكم أزمتها العميقة، باتت بحاجة إلى نوع من التهدئة، لاسيما في ملفها المعقد مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد). النظام التركي يحاول تخفيف الضغط الداخلي والخارجي الذي يرزح تحته، ولا يمكن له أن يحقق ذلك إلا عبر تفاهمات مع حزب العمال الكردستاني في الداخل التركي، ومع الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا. ذلك أنّ استمرار المواجهة المفتوحة يفرض على أنقرة أعباءً ثقيلة تستنزف طاقاتها وطاقات الدولة بشكل غير مبرر ولا يخدم مصالحها القومية.

إحدى الإشكاليات الجوهرية التي تواجه تركيا في هذا السياق تكمن في مسألة الثقة. فتركيا، كما هو معروف، لا تثق بدمشق، ولا حتى بالعرب عمومًا، وهذه الحقيقة تعود إلى عقود من التجارب والتعاملات المشتركة. لذلك، فإنّ تجاوز دمشق والذهاب مباشرة إلى اتفاق مع قسد من شأنه أن يضمن لأنقرة نفوذًا أكبر وفرصة لاستمرارية أطول، كون قسد – في حال التوصل إلى تفاهم – لن تُخِلّ به ولن تتراجع عنه، على عكس دمشق التي تبقى مواقفها غامضة، واتجاهاتها غير واضحة المعالم.

من هنا تأتي أهمية وجود تفاهمات حقيقية من شأنها تجنيب المنطقة ويلات جديدة. الضمانات الأساسية لهذه التفاهمات لن تكون إلا عبر وساطة الأمم المتحدة، وبرعاية أمريكية مباشرة، بما يضمن التزام الطرفين وتحييد أي محاولات إجهاض مبكر للمسار. أما المخاوف من أن تتحول قسد إلى مجرد أداة في يد أنقرة، فهي مخاوف غير مبررة، إذ أنّ قسد تمتلك خصوصيتها ورؤيتها وأهدافها المعلنة، التي تتركز أساسًا على حماية المنجزات في شمال شرق سوريا، واستمرارية المعركة ضد القوى الإرهابية، وفي مقدمتها تنظيم داعش. وإذا ما دخلت تركيا على هذا الخط بموقف داعم وعملي، فإنّ ذلك سيكون موضع ترحيب.

إنّ أوراق القوة التي تمتلكها قسد متعددة، وأبرزها هيكلها العسكري المتماسك والمنظم، إضافة إلى شراكتها المستمرة مع التحالف الدولي، وغموض مستقبل النظام في دمشق، فضلًا عن سير المفاوضات بين حزب العمال الكردستاني والحكومة التركية. هذه الأوراق مجتمعة تمنحها وزنًا استراتيجيًا، وتجعل منها فاعلًا لا يمكن تجاوزه أو تجاهله في أي معادلة إقليمية.

ورغم أن السيناريوهات المحتملة لم تتضح تمامًا بعد، إلا أنّ من مصلحة تركيا الاستراتيجية أن تبحث عن تفاهمات مع قسد. هذه المصلحة تتجلى في عدة اعتبارات، أهمها أنّ أنقرة باتت تعيش حالة قلق وجودي، إذ تتخوف قياداتها من فقدان نفوذها الإقليمي ومكانتها الدولية، نتيجة تراكم الأخطاء السياسية التي ارتكبها الرئيس رجب طيب أردوغان سابقًا، ويواصل وزير خارجيته هاكان فيدان اليوم ارتكابها من خلال إدارة الدولة بعقلية استخباراتية. هذه المقاربة دفعت بتركيا إلى أن تكون في موقع الخصم – بل العدو – للدول الكبرى والأكثر تأثيرًا في المنطقة.

ولعل أكثر ما يقلق المؤسسة الحاكمة في أنقرة هو شبح انهيار النظام السياسي من الداخل، الأمر الذي يجعل خيار الاتفاق مع قسد وحزب العمال الكردستاني ليس مستبعدًا، بل قد يكون ضرورة ملحة تفرضها أولويات الاستقرار والأمن الداخلي، وإعادة فتح صفحة جديدة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وحتى موسكو. تبقى دمشق خارج هذه المعادلة المعقدة، لأن بنية النظام السوري لا تزال غير واضحة، ولا يمكن الرهان عليها في المدى المنظور.

بناءً على ما سبق، يمكن القول إنّ تركيا تجد نفسها أمام لحظة حاسمة في تاريخها السياسي والإقليمي. فهي إما أن تواصل سياسة العناد والرهان على القوة الخشنة التي لم تجلب لها سوى العزلة والضعف، وإما أن تسلك طريق التفاهمات مع القوى الفاعلة في المنطقة، وفي مقدمتها قسد، بما يضمن تخفيف أزماتها الداخلية واستعادة جزء من مكانتها المفقودة. وفي الحالتين، فإنّ المستقبل القريب كفيل بالكشف عن أي الخيارات ستغلب في أنقرة: منطق الصراع المفتوح، أم واقعية التفاهمات؟