المقالات

المقالات

هي بوتان… بوتان

Hussein Omar
  • 32 مشاهدة view

في حضن الليل، حيث تتوشح الجبال برداء الغموض، كان صوت الأرض يتنفس مع وقع خطواتٍ خافتة، كأنها صدى لأقدامٍ جاءت من زمنٍ آخر. كان لالش ورفاقه الثلاثة يسيرون على تخوم الصمت، أشباحًا تمارس طقوسها القديمة في مواجهة العدم.

همس لالش وهو يلتفت:

ـ هذه الأرض تعرف رائحة الدم أكثر مما تعرف رائحة المطر، هنا ينصب العدو كمائنه.سيروا بهدوء، لا تخونوا الصمت، ولا تسبقوا الموت برصاصة طائشة.

تقدموا مثل زواحف مقدسة، تحرسها الأرواح التي خرجت من متاهات التاريخ.تقدموا رويدا رويدا حتى اعتلوا التلة، انكشفت لهم أبنية قاعدة العدو في قاع الوادي، أضواء مبعثرة، كجمرٍ مغطى بالرماد.

ثبت لالش منظاره، تحولت عيناه الى حدقةً للأرض كلها، تلتقط حركات الحراس، وأصوات الآلات الثقيلة، وملامح الجنود الراقصين بين سُكرٍ وإهمال. وحين لمح فصيلًا يعود مترنحًا، ابتسم ابتسامة من يعرف سرّ القدر، وقال في داخله:

ـ هذا التراخي هو بوابة الفجر… من لا يتوقع الموت، يستحق أن يولد له.

ساعات أربع ظلّ يحصي فيها الظلال، يكتب بلغة الصبر خريطة الهجوم، حتى بدا كأن الصخرة التي يستند إليها هي التي تكتب به. وحين أرسل إشاراته الأخيرة إلى القائد، أسند رأسه قليلًا، وأخرج خبزًا يابسًا من حقيبته. بلّله بالماء، وكأنّه يعيد له حياة قديمة، ثم بدأ يقرض أطرافه. في مضغته الأولى، تخيّل الانقضاض، في الثانية رأى الأبواب تنهار، وفي الثالثة دخل حلمه: رفاقه يتوغلون بين الأبنية، يصطادون الأسلحة كمن يجمع سنابل القمح في موسم الحصاد.

أفاق من حلمه على صوت اللاسلكي:

ـ الكتيبة وصلت… انتظرنا عند النقطة الموعودة.

نهض، شدّ رفاقه إلى صدره، ثم أخذ يردد كأنما يستحضر روحًا لا تفنى:

ـ “هي بوتان… بوتان… بوتانه،

شري مه لسر ته كرانه………..

وكان صوته أشبه بتراتيل تصحب المحاربين نحو أبدية جديدة.

مع الفجر، كانت الجبال شاهدة على ما جرى: فوجٌ اندثر، نارٌ التهمت الأبنية، وأصواتٌ تلاشت في الوادي. وسط الركام، وقف يوزباشي مستسلمًا، عيناه مطفأتان كشمعتين في مهب الريح، وعلى جانبه تسعة جنود ألقوا أسلحتهم.

اقترب منه لالش، وصوته يحمل مزيجًا من القسوة والرحمة:

ـ أنت ما زلت حيًا، وهذا يكفي. حياتك الآن ملكك، لا يفرضها عليك أحد. إن رفضت العودة، فلن يُكرهك أحد، سنفتح لك دربًا آخر، حيث لا حرب ولا صراخ.

كان حديثه أشبه بماء بارد يسيل في صحراء متصدعة.

اقترب منه شفكر، وسأل:

ـ كم قتيلًا خلفنا وراءنا؟

أجابه لالش وعيناه تلمعان برماد الانتصار:

ـ لا يهم عدد الموتى. المهم أن الفوج صار ذكرى. لم يعد موجودًا، وهذا يكفي.

وفي عمق الليل، حين عادت الكتيبة إلى معاقلها، ظل صدى الأغنية يطفو في الفراغ، كما لو كان نشيدًا للأرض نفسها:

هي بوتان… بوتان… بوتانه……….

شري مه لسر ته كرانه……….

نشيد لا يشيخ، يرافق الذين رحلوا، ويحمل الذين بقوا نحو قدرٍ أكبر.

حسين عمر